الهوية القومية الكردية في مواجهة الانقسام الديني المفتعل

عبدالعزيز قاسم 

منذ قرون، يشكل الإيزيديون جزءا أساسيا من النسيج القومي الكردي، فهم أبناء الجغرافيا والتاريخ واللغة نفسها، ورغم اختلاف ديانتهم عن الأغلبية المسلمة من الكرد، إلا أن انتماءهم القومي لم يكن يوما موضع شك أو خلاف في الوجدان الكردي.

والمعروف ان الهوية القومية الكردية شكلت نموذجا للتنوّع الثقافي والديني في الشرق الأوسط، غير أن هذا التنوّع تحوّل في مراحل مختلفة إلى ساحة صراع تستخدمها القوى الإقليمية والدول المحتلة لكردستان لتفكيك الوحدة القومية.
وبخاصة في السنوات الأخيرة حيث شهدت الهوية الكردية تصاعدا خطيرا في محاولات سياسية منظمة لفصل الإيزيديين عن قوميتهم الكردية، ابتداءا من الصراع الأرمني ـ الاذري على إقليم (ناكورنوكراباخ) وانتهاءا بهجوم تنظيم داعش الإرهابي على منطقة شنگال وسهل نينوى والاحتلال التركي لمناطق كردية ذات خصوصية دينية مثل عفرين وسريكانية، تزامنا مع  محاولات عدد من القوى الإقليمية استخدام الورقة الإيزيدية لخدمة أجنداتها، لتمزيق وحدة الهوية القومية الكردية.

عرف الإيزيديون عبر التاريخ بتمسكهم بهويتهم الخاصة داخل الإطار الكردي الأوسع، وبلغتهم اليومية والأدبية “الكرمانجية”، وهي واحدة من أهم اللهجات الكردية، وحتى الموروث الشفهي والديني الإيزيدي مليء بالمفردات والأساطير التي تعود بجذورها إلى الحضارات الكردية القديمة في ميزوبوتاميا وكردستان.

ومع ذلك، فإن الدول التي تحتل أجزاء من كردستان – تركيا، إيران، العراق، وسوريا – أدركت مبكرا أن وحدة الكرد الثقافية والدينية تمثل خطرا على سياساتها التقسيمية، فعملت على تغذية الانقسامات الداخلية، ومن بين أدواتها، تشجيع بعض النخب أو الجهات التابعة لها على الترويج لفكرة أن الإيزيديين “قومية مستقلة” أو “شعب منفصل”، بهدف إضعاف المطالب القومية الكردية.
وهذه المحاولات التي تحاك ضد الكرد اليوم تتشابه في النمط والأهداف مع محاولات فصل النساطرة في الماضي، من خلال استهداف استخدام الدين أو الانتماء الديني كأداة لتفكيك الهوية القومية الكردية، ويعد محاولة فصل الايزيديين عن هويتهم القومية تكرارا لنموذج تاريخي مشابه لقوى إقليمية ودولية ولسياسات قديمة استهدفت نساطرة كردستان قبل قرن ونيف عبر تضخيم الفوارق الدينية وتحويلها إلى فواصل هوياتية مصطنعة، وللاسف يعتقد بعض النخب الثقافية الأيزيدية؛ أن فصلهم عن الهوية الكردية، خاصة بعد جرائم تنظيم داعش الإرهابي في شنكال سيكسبهم دعما دوليا وأوروبيا أكبر، مستندين إلى تجارب تاريخية مفترضة.
لكن الواقع التاريخي والمعاصر يشير إلى أن القوى الغربية والدولية غالبا ما تتصرف وفق مصالحها الاستراتيجية، وليس وفق الاعتبارات القومية أو الدينية للأقليات.

هذا النمط لم يكن جديدا: فقد شهدت كردستان في القرن التاسع عشر محاولات مشابهة لإقناع نساطرة كردستان بفصل هويتهم عن الكرد، إلا أن الدعم الغربي كان محدودا ومؤقتا، ومحدّدا بمصالح القوى الدولية وليس بدوافع إنسانية صافية.

حيث سعت البعثات التبشيرية الأوروبية خلال القرن التاسع عشر لبناء هوية نساطرية مستقلة عن الكرد، بهدف تحويلهم إلى حلفاء سياسيين ومسيحيين موالين للغرب.
وبهذا الصدد كتب المستشرق فلاديمير مينورسكي: “النساطرة مرتبطون اجتماعيا وثقافيا بالكرد، ولكن القوى الغربية حاولت فصلهم لأغراض سياسية.”
وكما رأينا فكانت النتائج سلبية ولم تتحقق مصالح النساطرة على المدى الطويل، ولم توفر القوى الغربية حماية فعالة، بل انسحبت حين تغيرت المصالح الاستراتيجية.
وعلى النخب الايزيدية قراءة الواقع بشكل أعمق وان القوى الدولية والدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، تعاملت مع الإيزيديين أحيانا كأداة سياسية مؤقتة، كما حدث حين دعمت فصائل معينة، شعارات الحرية تدهس تحت الاقدام حين تتعارض مع المصالح، وها هي امريكا التي تزعم دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان  اليوم تتعامى مع “سلطة سورية” خرجت من رحم تنظيم ارهابي.
هذا يوضح أن الدعم الدولي لا يضمن الحماية الدائمة للهوية القومية أو حقوق الأقليات، إذا لم يرتبط بمشروع وطني شعبي متماسك.
وعلى هذه النخب الاستفادة من تجارب النساطرة ايضا؛ التي تظهر بوضوح أن الانفصال عن الهوية القومية غالبا ما يؤدي إلى عزلة وضعف على المدى الطويل، وأن الانفصال عن الهوية القومية ليس طريقا آمنا لكسب الدعم الدولي أو الأوربي.

لذلك، فإن الحفاظ على الوحدة القومية الكردية، مع احترام التنوع الديني، يظل الخيار الأكثر استراتيجية وأمانا لحماية الحقوق وضمان الاستمرارية التاريخية للأقليات.
ومع أن القيادة الكردية بزعامة مصطفى البارزاني كان حريصا على الحفاظ على روح التسامح والتعايش في المجتمع الكردي وفي أكثر من مناسبة شدد على العلاقة التاريخية بين الكرد والاشوريين والكلدان وهنا أود التذكير بخطابه في بادينان عام 1969، أن: “الإيزيديون هم قلب الأمة الكردية وروحها القديمة، لا فرق بينهم وبين أي كردي آخر، بل هم رمز لأصالتنا الدينية والتاريخية”.
وهنا كان البارزاني واضحا في وصف الإيزيديون بروح الأمة الكردية القديمة في إشارة إلى أن الأيزيدية يشكل أقدم الديانات الكردية المستمرة حتى اليوم، ويمثلون امتدادا للمعتقدات الزرادشتية والميثرائية القديمة في جبال شنكال وبهدينان ولالش.
ولكن رغم ذلك، لاقت بعض هذه المحاولات لفصل الايزيديين عن هويتهم القومية نجاحات باهرة، كما حدث في إقليم (كردستان قفقاسيا) المعروف باسم (ناكورنوكراباخ) ايضا، الذي كان يضم أكبر تجمع كردي، حيث وبحسب احصائيات العهد السوفيتي 1926 بلغ عددهم أكثر من 60 ألف نسمة وكانوا يشكلون رابطا بين الكرد في الأقاليم الكردية الاخرى، وبعد استقلال أرمينيا 1991 وخلال الصراع الأرمني الاذري حول إقليم ناكورنوكراباخ ورغم العلاقات التاريخية والثقافية القديمة بين الكرد والأرمن، إلا أن السياسة الرسمية الأرمنية وبخاصة بعد 1991 تميزت بانتقائية واضحة تجاه الكرد، حيث بدأت مؤسسات الدولة الأرمنية (وخاصة وزارة الثقافة والتعليم) باستخدام مصطلح “الايزيديون الارمن” بدلا من “الكرد الايزيديين”  في خطوة “فصل الهوية” متعمدة، إضافة إلى تهميش الكرد “المسلمين” واتهامهم بالتعاطف مع أذربيجان وبالتالي شهدت مناطق كردية مثل كلبجار ولاتشين عمليات تهجير مزدوجة، حيث استخدم الايزيديين كجسر ناعم في العلاقات الأرمنية – الغربية، إذ حاولت أرمينيا أن تقدم نفسها كدولة “تحمي الأقليات” أمام اوربا وامريكا، إلا أن من منظور أوسع هدفت هذه السياسات إلى منع هوية كردية موحدة في قفقاسيا خصوصا أن كرد قفقاسيا كانوا يمتلكون وعيا قوميا مشتركا يتجاوز الحدود الدينية، وما يدعو للاسف والاستغراب ان الفصل تم في أكثر البيئات الكردية المتحضرة، إذ يعد كرد قفقاسيا أحد المكونات الأساسية في التاريخ الثقافي والسياسي للأمة الكردية، فبرغم كونهم أقلية صغيرة نسبيا من حيث العدد، إلا أن مساهماتهم الفكرية والأدبية واللغوية كانت عميقة ومؤثرة في صياغة الوعي القومي الكردي الحديث، حيث أن مساهماتهم لا تقاس بحجمهم العددي، بل بعمق تأثيرهم التاريخي في تشكيل الهوية الكردية، الحديثة، والامر الثاني أن هذه العملية تمت من قبل أرمينيا التي تجمعنا تاريخ وجغرافية مشتركة تمتد إلى عدة قرون، فمنذ بدايات القرن العشرين ومع اعلان جمهورية كردستان الحمراء وفيما بعد تحولت أرمينيا بعد انهيار جمهورية كردستان الحمراء وفي ظل الاتحاد السوفيتي إلى منبر ثقافي وفكري أسهم في الحفاظ على اللغة الكردية وتطوير الادب القومي في وقت كانت اللغة محرمة ومهددة في الأجزاء الأخرى من كردستان.
ولكن سرعان ما كشفت أرمينيا عن قبح وجهها والتأمر على اقرب حليف تاريخي لها وإحداث جرح أليم وشرخ كبير في هوية الكرد الايزيديين، إذ تعد تجربة الكرد المأساوية في قفقاسيا خلال النزاع الاذري ـ الأرمني، اكبر عملية فصل حديثة بين الكرد وهناك من يحاول تكرار هذه التجربة في شنكال كأداة لتفتيت القومية الكردية وإضعاف الكرد لصالح القوى الإقليمية التی تسعى بكل الوسائل إلى منع تشكل كيان قومي كردي موحد.
هنا لابد من الاستفادة من دروس التاريخ، فنحن أمام ثلاثة حالات من الفصل ـ الحملات التبشيرية وفصل النساطرة في كردستان والمحازر التركية الوحشية والبريرية على الارمن والمسيحيين والايزيديين في بداية القرن العشرين، الصراع الأرمني ـ الاذري وتهجير الكرد وفصلهم، والحالة الأخيرة هي هجوم تنظيم داعش الإرهابي على شنگال ومحاولات فصل الايزيديين عن كردستان وحتى عن لالش وشيخان ـ هذه الحالات تكشف عن نمط استراتيجي متكرر يقوم على استغلال الاختلاف الديني لإضعاف الإطار القومي، إن محاولات الفصل بين الإيزيديين واليارسانيين والفيلين والعلويين والكرد المسلمين هي امتداد معاصر لسياسات تفكيك الهوية الكردية عبر الدين، وهي أخطر من أي تهديد عسكري لأنها تضرب المجتمع من الداخل.
مسؤولية التصدي لهذه السياسات تقع على جميع النخب الكردية — الثقافية، السياسية، والدينية — من خلال بناء مشروع وطني كردي جامع يجعل من التنوع الديني مصدرا للقوة لا للانقسام.

إن وحدة الكرد لا تُبنى على التشابه العقائدي، بل على الوعي التاريخي المشترك الذي يرى في لالش، جبال هكاريا وجودي وحلبجة، وشنكال وعفرين وجوها مختلفة لروح واحدة اسمها كردستان.

التاريخ يُعلّم أن الحل الأكثر فاعلية هو بناء قومية جامعة تحتكم إلى الحق في التنوع، وإلى سياسات تعليمية وثقافية تحمي اللغة والميراث المشترك. إن حماية مكونات مثل الإيزيدية والنساطرة واليارسانية ليست رفاهية ثقافية، بل شرط وجودي لاستمرار الهوية الكردية الجامعة على المدى الطويل.

ولا شك ان الإبادة والجرائم التي ارتُكبت ضد الإيزيديين عزّزت وعيا قوميا لدى شريحة كبيرة منهم، وولّد تضامنا كرديا واسعا.

القومية الكردية التي اعتنقت التنوع الديني باعتباره عنصر قوة وفّرت آليات حماية أفضل للإيزيديين مقارنة بالاعتماد على دعم خارجي متقلب.

وهنا لابد من الوقوف أمام معضلة خطيرة؛ حيث تشهد بعض المناطق الكردية اليوم نشاطا متزايدا لخطابات دينية متشددة تتبناها جماعات مرتبطة بالإخوان المسلمين وبعض المعاهد التركية والعربية.
تروّج هذه الجهات لمفاهيم تكفيرية كـ”تحريم أكل ذبائح الإيزيديين” أو “عدم جواز التعامل معهم”، وهي أفكار دخيلة على الإسلام الكردي المتسامح.
الهدف الحقيقي منها هو شق الصف الكردي دينيا، وإضعاف التلاحم الاجتماعي والسياسي بين مكونات الأمة الكردية.
تسعى تركيا وبعض الدول العربية إلى إعادة تعريف الدين وفق أجندتها السياسية، عبر تمويل جامعات ومدارس دينية تعمل على دمج الكرد في الفضاء الثقافي التركي–العربي.
وهو ما يُعد تهديدا مباشرا للهوية القومية، لأن استيراد الفكر الديني دون جذور محلية يخلق انقساما عموديا بين “كردي مسلم تقليدي” و“كردي ديني متأثر بخطاب خارجي”.

وهنا لابد من وجود مشروع قومي للحماية من المحاولات المعادية، ابتداءا من بناء خطاب ديني كردي معتدل ومستقل، يربط الدين بالأخلاق والإنسانية لا بالتمييز وانتهاءا بتشكيل وإنشاء مجالس دينية كردية مشتركة تضم ممثلين عن المسلمين والإيزيديين والعلويين واليارسانيين، وتطوير مناهج تعليمية تؤكد أن التعدد الديني جزء من الأصالة الكردية، لا انحراف عنها.
وكذلك تقع على المثقفين والأكاديميين والساسة الكرد مسؤولية إعادة تعريف الانتماء القومي على أساس ثقافي تاريخي لا ديني، أي ترسيخ فكرة أن الكرد أمة تجمع بين الإيزيدي والعلوي واليارساني والمسلم والمسيحي.

عليهم مواجهة الخطابات المتطرفة عبر الإعلام والبحث والتعليم، من خلال نشر التراث الكردي المشترك الذي سبق الإسلام، والذي يجمع الجميع.

وعلى الأحزاب والمؤسسات السياسية الكردية أن تتحمل واجب تحييد الدين عن الاستقطاب السياسي، واحتضان كل المكونات الكردية دون تمييز أو تهميش، ومواجهة خطاب الكراهية الدينية.

كما يجب أن يصدر عن المرجعيات الدينية الكردية بيانات واضحة تحرّم ازدراء أي ديانة كردية أو التمييز ضدها، وبخاصة على الأحزاب الإسلامية والمؤسسات الدينية الكردية (الإسلامية) أن تفكّ ارتباطها الفكري والتنظيمي مع التيارات المتشددة القادمة من الخارج (خصوصا تلك التابعة لجماعة الإخوان المسلمين أو التيار السلفي التركي والعربي).

وهنا لابد من الإشادة بدور حكومة إقليم كوردستان في الاهتمام الخدمي والعمراني المتزايد بمنطقة شيخان وبمقدسات الايزيديين وبخاصة لالش وكذلك دور أمير الايزيديين والمجلس الروحي ونخب كردية ثقافية ودينية وسياسية في مواجهة الانقسام الديني المُفتعل.

Scroll to Top