ضياء إسكندر
حين تعجز الجغرافيا عن حماية ساكنيها، وتغدو الطبيعة مجرد شاهد أخرس، تصير الأرض مسرحاً للصمت، والبحر أرشيفاً للألم. تنكفئ الحياة، ويُطمر الأمل تحت ركام العجز والنسيان.
أربعة أشهر من الدخان والدموع، وما زال الساحل السوري ينزف جراحاً لم تندمل. مجازر تركت ضحاياها طعاماً لأسماك البحر؛ وفي المكان الذي كان يُفترض أن يكون البحر فيه متنفساً للسكان، تحوّل إلى مقبرة جماعية تلفظ بين الحين والآخر بقايا بشرٍ لم يُمنحوا حتى حقّ الدفن.
الجبال التي كانت حصناً صامتاً، لم تعد قادرة إلا على تسجيل فصول المأساة في ذاكرة صخورها وغاباتها المحترقة. والساحل الذي كان “الخاصرة الآمنة”، يُذبح الآن ببطء وبلا رحمة، بينما العالم يتجاهل صرخاته الأخيرة.
جذور المأساة: ما قبل الكمين
يُحيل البعض بداية الجرح إلى السادس من آذار، حين نُصب كمينٌ لفصيل من قوى الأمن العام، لكنها ليست الا استمراراً لما ارتكب بحق السوريون بدأ من حلب إلى القرداحة، والسقيلبية إلى القرى النائية المنسية، لتكون أشد قسوة، في ريف حمص الشمالي الغربي، تحديداً في قريتي فاحل ومريمين المحسوبتين على الطائفتين العلوية والمرشدية، حيث جرى إذلال الأهالي بأبشع الصور: أُجبِروا على الانبطاح والزحف، وتقليد نباح الكلاب ونهيق الحمير، قبل أن تُتوَّج هذه الإهانات بقتل عدد من المدنيين، لا لذنبٍ ارتكبوه، سوى انتمائهم الطائفي.
ولم تكن حادثة قرية “عين الشمس” التابعة لريف مصياف في 27 شباط أقل وحشية، إذ قُتل وأُهين واعتُقل العشرات، بذريعة “ملاحقة الفلول”. تلتها مجزرة “الدعتور” في اللاذقية بتاريخ 4 آذار، التي راح ضحيتها عدد من المدنيين، بينهم امرأة وطفلها، بعد اشتباك أوقع قتيلين من عناصر الأمن العام في مواجهة مع مجموعات مسلحة تابعة للنظام الساقط.
التراكم الكمّي يؤدي إلى التغير النوعي
هذا التراكم المروّع من الحوادث المشينة، ولّد احتقاناً شديداً في صدور كثيرين، حتى انفجر في لحظة الكمين المذكور آنفاً، ليتحول بعدها الساحل إلى مسرح لمجازر طالت الآلاف من أبناء الطائفة العلوية، وأجبرت أعداداً كبيرة من السكان على الفرار إلى لبنان، أو إلى مدن سورية أخرى تشهد أمناً نسبياً.
أما الكارثة الكبرى، فتكمن في الغموض الذي لا يزال يلفّ عدد الضحايا والمفقودين حتى اليوم. الأرقام متفاوتة حدّ الصدمة؛ فبينما يدّعي البعض أن عدد القتلى لا يتجاوز الألفين، يؤكّد آخرون أن المأساة تخطّت حاجز العشرين ألفاً، وربما أكثر.
وأمام موجة الغضب العارمة محلياً وإقليمياً ودولياً، شُكِّلت لجنة تقصي حقائق للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت خلال أيام المجازر. وقد مُنحت اللجنة مهلة شهر واحد بدءاً من التاسع من آذار 2025، لكن تم تمديدها لثلاثة أشهر أخرى. بذريعة أن المدة غير كافية للإحاطة بجميع الوقائع. وسط سخط واستياء كبيرين من قبل غالبية المتضررين من هذه اللجنة لعدم ثقتهم بها، ويطالبون بمحكمة ذات طابع دولي لافتقادهم الثقة في نزاهة التحقيق المحلي وقدرته على إحقاق العدالة.
إلا أن المأساة لم تُطوَ بعد؛ فالانتهاكات، وعمليات الخطف، والاغتيالات، لا تزال مستمرة حتى لحظة إعداد هذا السطور. الفرق الوحيد أنها باتت تُنفذ بعيداً عن الكاميرات، بعد أن فضحتهم مقاطع الفيديو التي صوّروها بأنفسهم، وهم يتباهون بجرائمهم، ساخرين من أي عواقب، واثقين بأن لا عدالة ستطالهم.
الآن، يمكن القول إن المدن الرئيسة في الساحل (اللاذقية، وجبلة، وبانياس، وطرطوس) – وعلى الرغم من حظر التجول الطوعي الذي يبدأ من غياب الشمس وحتى صبيحة اليوم التالي، بسبب الخوف من الخطف أو الاعتقال أو القتل- تنعم بالهدوء نهاراً عموماً، وتتوفر فيها مستلزمات العيش بأسعار أفضل مما كانت عليه سابقاً، لكنّ هذا الهدوء الظاهري يخفي شللاً متفاقماً داخل مؤسسات الدولة، التي تعمل بروحٍ خاوية، كأن الحياة انسحبت منها بهدوءٍ جنائزيّ، لا يُنتج سوى الحدّ الأدنى من الخدمات.
ويُعزى ذلك، في معظمه، إلى عجز آلاف الموظفين عن الوصول إلى أماكن عملهم، إما بسبب ندرة وسائل النقل، أو نتيجة تسريحهم من وظائفهم ضمن موجات الإقصاء الأخيرة. أما من بقي في الخدمة، فغالباً ما يُنفق راتبه الزهيد كاملاً على أجور المواصلات، دون أن يبقى له ما يسد رمق يومه.
في المقابل، لا يزال الريف الساحلي يرزح تحت وطأة الخطر. الناس هناك ينامون خائفين، ويستيقظون على صوت الرصاص، فيهرعون من بيوتهم إلى البراري والأحراش، خشية مجازر قد تُفاجئهم في عتمة الليل. كثير من العائلات، ممن نُهبت أو أُحرقت منازلها، فرّت نحو المدن واستأجرت بيوتاً مؤقتة، على أمل نجاةٍ لم تتضح ملامحها بعد.
وفي خضمّ هذا الواقع المأزوم، لم تعد فكرة الفرار حلماً فردياً، بل تحوّلت إلى أمنية جماعية تتردّد في المجالس، وعلى شفاه الكبار والصغار. ولا نبالغ إن قلنا إن غالبية أبناء الساحل، لو أُتيحت لهم فرصة الرحيل إلى أي بقعةٍ في هذا العالم، لما ترددوا لحظة. غير أن ضيق الحال من جهة، وانسداد أبواب اللجوء من جهة أخرى، يجعلان من هذا الحلم ضرباً من المستحيل.
الوجدان الشعبي: من رفض الفيدرالية إلى تبرير التقسيم
غالبية سكان الساحل يعيشون حالة من التوجّس والقلق، وفي ظلّ صمت الإعلام الرسمي وغياب الإعلام الحر، باتت مصادرهم الوحيدة للأخبار هي صفحات الفيسبوك واتصالاتهم الشخصية عبر شبكة الإنترنت. في هذا الفراغ الإعلامي، ووسط الانهيارات المتتالية، تغيّرت البوصلة في قلوب الناس.
فالذين كانوا، حتى وقتٍ قريب، يرفضون بشدّة مجرد سماع عبارة “الإدارة الذاتية” — التي لطالما روّج النظام البائد أنها مرادفة للانفصال والخيانة — باتوا اليوم يقبلون لا بالفيدرالية فحسب، بل حتى بالتقسيم. لا بدافع القناعة السياسية، بل فقط رغبةً في البقاء على قيد الحياة. لقد بدؤوا يبرّرون الفكرة بمرارة، مستندين إلى ما ذاقوه من ويلات خلال الشهور الماضية؛ إذ لم يعد لديهم ما يخسرونه سوى الخوف ذاته.
بلادٌ معلّقة بين نارين
ما يحدث في الساحل السوري ليس مجرّد أزمة أمنية ولا اضطراباً سياسياً عابراً، بل جرحٌ مفتوح في خاصرة وطنٍ يترنّح على حافة الانهيار.
بين سلطة مهترئة عاجزة عن الحماية، ومعارضة مشتتة لم تُفلح في توحيد صفوفها، وشعبٍ خائف تائه بين ركام الخيبات—تظل البلاد معلّقة بين نارَين:
نار الانتظار، ونار الاندثار.
وإن لم يُكتب لهذا الواقع خاتمة عادلة، فإن ما يُخطّ اليوم على جدران القرى ليس شعاراتٍ مؤقّتة، بل وصايا الراحلين، رسائل ما قبل الفقد الأخير.
ومع ذلك، حتى في أحلك اللحظات، يظلّ في القلوب قبسُ رجاءٍ لا تُطفئه المجازر، ووميض كرامةٍ تعجز البنادق عن إخماده.
من تحت الركام، ستنهض الحكايات.
ومن بين أنقاض القرى المنكوبة، ستولد أصواتٌ جديدة؛ لا لتنتقم، بل لتشهد، وتُصلح، وتعيد للبحر صفاءه، وللجبال هيبتها، وللإنسان حقه في أن يحيا بلا خوف.
ANHA
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=67477