الخميس, نوفمبر 21, 2024

انعكاسات التَّطبيع التركي – المصري على “تنظيم الإخوان” والملف السُّوري

لزكين إبراهيم

قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد عودته من القاهرة التي زارها لأول مرة منذ أكثر من عقد من القطيعة: “إنّ هدف سياستنا الخارجية هو زيادة عدد الأصدقاء بقدر الإمكان. نُريد لهذه المئويّة أن تكون مئويّة السلام والاستقرار في المنطقة، ومن أجل تحقيق ذلك فلا سبيل أمامنا سوى زيادة عدد أصدقائنا في المنطقة، إذا أردنا أن نُفشل خطط الدول الإمبريالية التي تسعى إلى إضعافنا، فإنه لا سبيل أمامنا إلّا حلّ المشكلات مع الدول الصديقة، وتحويل الخلافات إلى نقاط انطلاق لتعاون أكبر وقوي في المنطقة”[1].

إن هذه التغييرات التي يقول أردوغان أنه سيجريها على سياساته الخارجية تعني أنّ تغييرات أخرى ستطرأ على علاقاته مع أطرافٍ مواليةٍ له، وعلى رأسها تنظيم الإخوان المسلمين.

هل حقاً سيتخلى أردوغان عن “تنظيم الإخوان”؟

على اعتبار أنّ السّياسات التّركية الإقليميّة تسير منذ انطلاق ما سمّي “الربيع العربي” بشكل أساسي على عجلة تنظيم الإخوان المسلمين، فإنّ هذه الاستدارة التركية صوب الأنظمة العربية المناهضة لـ”الإخوان” سيكون لها تداعيات مباشرة على دور “الإخوان” الإقليمي، وبما أنّ السبب الرئيسي للقطيعة بين تركيا والقاهرة كان “الانقلاب” على حكم “الإخوان” في عهد محمد مرسي، فإن زيارة أردوغان الأخيرة لمصر تعني في أحد جوانبها اعترافاً رسميا من قبل الرئيس أردوغان بنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي بعد أن كان يصفه “بالدكتاتور الانقلابي القاتل”، وعليه فإنّ “الزيارة تعني عملياً اعتراف أنقرة بانتهاء دورها السياسي الداعم لتنظيم الإخوان المسلمين وانتفاضات ما سمي “الربيع العربي”[2].

وهذه التداعيات ظهرت بشكل سريع على الفرع المصري لتنظيم الإخوان، فبعد لقاء أردوغان والسيسي، قضت محكمة استثنائية مصرية بتاريخ 4 مارس/آذار 2024 بإعدام مرشد تنظيم  “الإخوان المسلمين” محمد بديع وسبعة من قيادات الإخوان، كما قضت المحكمة بالسجن المؤبد لـ 37 متهماً، لإدانتهم بتنظيم أعمال عنف “لأغراض إرهابية” أثناء اعتصام في القاهرة سنة 2013[3].

فالحكم بالإعدام على رأس هرم الإخوان وكبار قياداته بعد أيام من زيارة أردوغان للقاهرة، ووصف أردوغان للسيسي “بالأخ الشقيق” يشيران إلى أنّ مصر التمست من أردوغان استعداده التضحية “بإخوان مصر” من أجل المكاسب الاقتصادية والعلاقات السياسية مع القاهرة، ما شجع الحكومة المصرية على إصدار هذه الأحكام بحق مرشد الإخوان وقيادات الصف الأول المعتقلين في السجون المصرية منذ انهيار حكمهم.

وسبق ذلك الإجراء المصري ما أثارته تركيا أيضاً من ضجة حول سحب الجنسية من القائم بأعمال مرشد “الإخوان”، وزعيم “جبهة اسطنبول” “محمود حسين”. ورغم أنّ مصادر من تركيا صرحت لوسائل الإعلام أنّ “واقعة سحب الجنسية من محمود حسين تقع ضمن أكثر من 46 قضية سحب جنسية أخرى لعناصر من الإخوان وغيرهم بسبب “مافيا للتلاعب في العقارات”، وأنه تسعى السلطات التركية لحصر وضبط عناصر هذه المافيا التي تضم مصريين وسوريين وروساً”[4]، إلّا أنّ توقيت هذا الإجراء الذي جاء بعد يوم واحد من عودة أردوغان من القاهرة يشير إلى تقصّد تركيا فتح هذا الملف في هذا التوقيت لإيصال رسائل حسن نيّة إلى مصر وباقي الدول العربية والخليجية المناهضة لتنظيم الإخوان.

ويبدو أن هناك عوامل دفعت أردوغان للتضييق على “الإخوان” داخل تركيا واستخدامهم ورقة للمساومة مع مصر وقبلها مع الإمارات والسعودية، منها:

فشل “الإخوان” في أعقاب ما سُمي بـ”الربيع العربي” في الوصول إلى السلطة في البلدان التي شهدت الاحتجاجات وخاصةً في مصر. بالإضافة إلى سقوط الحكومات الإخوانية أو المتحالفة مع “الإخوان” المسلمين في كل من تونس والجزائر وليبيا والسودان وغيرها.

الخلافات الداخلية العميقة بين تيارات التنظيم وصراعهم على منصب القائم بأعمال المرشد بين جبهة لندن وجبهة اسطنبول، والتي برزت بعد اعتقال المرشد العام لتنظيم “الإخوان” محمد بديع عام 2013، ووفاة القائم بأعمال المرشد العام إبراهيم منير عام 2022، والتنافس على أموال التنظيم، الأمر الذي أضعف التنظيم وجعله غير قادراً على تلبية أهداف تركيا في الدول العربية.

ما كشفته حرب غزة من ضعف دور التنظيم الدولي للإخوان، وفقدانه السيطرة والهيمنة على فرعه الفلسطيني المتمثل في حماس، ما أضعف بالتالي الدّور التركي في ملف غزّة.

فكل هذه العوامل دفعت تركيا لاستعمال تلك الورقة المحروقة أساساً لزيادة فرص التقارب مع مصر والدول الخليجية. خاصةً أنّه بعد إعادة انتخاب أردوغان رئيساً، وجدت الدبلوماسية التركية زخماً جديداً في تعزيز العلاقات مع العالم العربي، مدفوعة جزئياً بآمال أنقرة في جذب الأموال الخليجية لدعم اقتصادها المتعثر. ما يعني أنّ تركيا تسعى لإيلاء الأهمية -هذه المرة- لرفع الاقتصاد التركي عبر عقد استثمارات ضخمة وطويلة الأمد مع الدول الخليجية والعربية بدلاً من مواصلة دعم وتحريض “الإخوان” ضد الأنظمة العربية. وللحفاظ على تلك العلاقات والاستثمارات كان لا بدّ لتركيا من إظهار تغيير يطرأ على سياساتها تجاه تنظيم الإخوان المسلمين؛ لأن ملفهم يعتبر من أكثر الملفات الخلافية بين تركيا وكل من مصر والإمارات والسعودية.

ولكنّ هذه التغيرات في سياسات تركيا تستدعي التساؤل؛ هل حقاً سيتخلى أردوغان عن تنظيم الإخوان؟

إنّ العلاقة بين حكومة العدالة والتنمية التركية ذات التوجه الإسلامي، وبين التنظيم الدولي للإخوان هي علاقة إيديولوجية، حيث تقدّم حكومة العدالة والتنمية نفسها المدافعة عن الإسلام السني، ويلعب “الإخوان” دوراً وظيفياً لخدمة مصالح تركيا في أكثر من 70 دولة حول العالم. وبالتالي، فإنّ التضييق على نشاط الإخوان داخل تركيا أو تهميش دور فرع لتنظيم الإخوان في بلد عربي هو لضروراتٍ مرحلية ولا يعني قطع تركيا العلاقات مع تنظيم الإخوان أو معاداتهم. وهذا ما كشف عنه استقبال أردوغان بتاريخ 8 أغسطس/آب 2023 وفداً من اتحاد علماء المسلمين الذي يعتبر “الواجهة السياسية لتنظيم الإخوان” والذي ضم أكثر من 20 قيادياً للإخوان من مختلف أنحاء العالم.

يبدو أن أردوغان أراد من ذاك اللّقاء، الذي حصل في وقت كانت تركيا تعقد اجتماعات استكشافية على مستوى الوزراء مع مصر، وضع قيادات الإخوان في صورة الاستراتيجية الجديدة للسياسة التركية بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة، وتوجيههم للعب دورهم الوظيفي بموجب تلك الاستراتيجية في بلدان جديدة غير التي طبَّعت تركيا العلاقات معها. وبحسب ما كشفته تصريحات بعض تلك القيادات لوسائل إعلام تركية بعد اللقاء بأن “أردوغان ناقش معهم الأوضاع في إفريقيا”، ما يرجح أن تكون تركيا أوعزت للإخوان بتركيز نشاطهم ودعم النفوذ التركي في إفريقيا هذه المرة، خاصة بعد الانتكاسات التي تعرضت لها الدول الأوربية في الساحل الإفريقي بعد الانقلابات العسكرية وانسحاب كل من فرنسا وألمانيا منها، وتمدد النفوذ الروسي عبر مرتزقة فاغنر في تلك الدول، حيث أعلن الرئيس التركي، بتاريخ 21 أغسطس/آب 2023 حين عودته من المجر أنّ “بلاده تعارض قرار المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بالتدخل العسكري في النيجر، ولا تراه صائباً، وتدرس كيفية لعب دور محوري في الأزمة التي يعيشها البلد الأفريقي، منذ الانقلاب العسكري وعزل الرئيس محمد بازوم في 26 يوليو/تموز 2023”[5]. وبالتالي يبدو أنّ تركيا تحاول لعب دور وظيفي نيابة عن الغرب مستخدمة تنظيم “الإخوان” في إفريقيا لقطع الطريق أمام تزايد النفوذ الروسي على دول الساحل الإفريقي.

وفي المحصلة فإنّ إظهار التضييق على إخوان مصر في تركيا، لن يصل لحد طرد قيادات “الإخوان” أو تسليمهم لمصر، وفي المقابل ربما سيخفض الإخوان ووسائلهم الإعلامية داخل تركيا تهجمهم على الحكومة المصرية تماشياً مع الاستراتيجية التركية الجديدة.

التداعيات على الملف السوري.. تغيير جذري في الموقف التركي أم مجرد التفاف؟

يعتبر التدخل التركي في الملف السوري وخاصة دعم “إخوان سوريا” والتنظيمات الجهادية الأخرى، من العوامل التي أثّرت على العلاقات بين تركيا ومصر والعديد من الدول الخليجية. ولكن الظروف باتت مغايرة حالياً، فمع استعادة دمشق مقعدها في الجامعة العربية، فإنّ علاقات مصر مع النظام في دمشق باتت مغايرة لما تريده أنقرة. ما يفرض على تركيا تغيير طريقة تعاملها مع الملف السوري. الأمر الذي يستدعي التساؤل؛ هل ستضيّق تركيا على “إخوان سوريا” أيضاً على غرار ما تفعل مع “إخوان مصر”؟ وكيف ستصل التفاهمات بين أنقرة والقاهرة إلى نهاية الطريق مع وجود الملف السوري في منتصفه؟ وما الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر ما بعد التطبيع مع تركيا في الملف السوري؟

إن المواقف المصرية السياسية المعلنة بعد عودة دمشق للجامعة العربية ظهرت عبر تصريحات وزير الخارجية المصري سامح شكري الذي دعا تركيا في أكثر من مناسبة لسحب قواتها من سوريا، وفي المقابل صدرت تصريحات من قبل الحكومة التركية تحاول فيها تبرير استمرار وجودها العسكري على الأراضي السورية بحجة “مكافحة الإرهاب”، مما يعني استمرارها في دعم الإخوان المسلمين الذين يهيمنون على “الائتلاف السوري المعارض” أو مواصلة دعم العديد من التنظيمات الجهادية والإرهابية كــ”هيئة تحرير الشام” و”أحرار الشام”، بالإضافة إلى الفصائل المسلحة التي تجمعها تركيا تحت مظلة “الجيش الوطني السوري” وخاصة التي ذاع صيتها بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان. بالإضافة إلى تحول الكثير من تلك الفصائل إلى “مرتزقة” تستخدمهم تركيا في حروبها الخارجية، سيّما في ليبيا التي تُعتبر هي الأخرى من أبرز الملفات الخلافية بين مصر وتركيا.

فطريقة تعامل تركيا مع تلك الجماعات والتنظيمات سيكون لها تداعيات على العلاقة بين أنقرة والقاهرة، الأمر الذي سيفرض على تركيا اتباع نهج مغاير معها لتتمكن من الحفاظ على علاقات متوازنة مع مصر وباقي الدول العربية والخليجية، وتشير المعطيات الأخيرة إلى أن تركيا بدأت بالفعل التحرك لإحداث بعض التغييرات على تلك الملفات، فبعد عودة أردوغان من مصر تصاعدت الاحتجاجات والضغوطات ضد “هيئة تحرير الشام” وبالتزامن مع انشغال الأخيرة بهذه الاحتجاجات والتصدعات الداخلية التي أصابت البنية الهيكلية لها، برزت مساعٍ تركية لإعادة طرح مشروع إعادة هيكلة “الجيش الوطني السوري”. مدّعية بذلك أنها تعمل من خلال إعادة الهيكلة على إقصاء الإخوان، واستبعاد الفصائل الإسلامية والجهادية أو التي تلاحقها ملفات ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية إرضاءً لمصر، ولتهيئة الظروف والأرضية المناسبة لتلبية شروط التطبيع مع دمشق.

وبالتالي، فإنّه في حال استطاعت تركيا إحداث هذه التغييرات في المناطق التي تحتلها في سوريا، وتغيير شكل تعاملها مع تلك الجماعات والفصائل، فإنها قد تحظى بوساطة مصرية لإعادة ترتيب العلاقات بين أنقرة ودمشق، على غرار ما فعلت القاهرة عام 1998 حين دخلت على خط الأزمة بين أنقرة ودمشق وساهمت في إنجاز “اتفاقية أضنة”.

بالنتيجة.. يبدو أنّ حالة التشرذم والانشقاقات في صفوف “تنظيم الإخوان” وتحوله إلى عدة جبهات وتيارات، وظهور التنظيم لأول مرة برأسين أحدهما في لندن والآخر في إسطنبول، كانت من أبرز أسباب تهميش تركيا لدورهم الوظيفي فيما يخص مصر وسوريا في الوقت الراهن، والوصول لدرجة الحكم على مرشدهم العام بالإعدام بعد لقاء أردوغان والسيسي.

وفيما يخص الملف السوري، ورغم قطع التطبيع بين أنقرة والقاهرة أشواطا متقدمة، فإنه لاتزال هناك العديد من التحديات قد تواجه تركيا ومصر فيما يخص الحل السياسي في سوريا، إذ يصعب الوصول إلى توافقات إن لم تبدِ تركيا خطوات عملية تؤكد أنها لا تطمح لاحتلال مستدام للأراضي السورية، بالإضافة إلى إبداء جدية في التخلي عن دعم التنظيمات والجماعات الإسلامية كـ”الإخوان وتحرير الشام”، فيما سيكون العقبة الأكبر هو أن هناك لاعبون آخرون لن يفرطوا بمصالحهم في سوريا مثل روسيا وإيران وأميركا وبعض العواصم العربية والأوربية الأخرى. فحتى إن نجحت تركيا ومصر في تحقيق اختراقات سياسية في سوريا، فلن يكون ذلك كافياً إن لم تصغ تركيا إلى أميركا التي أقرت في فبراير/شباط 2024 قانون “مناهضة التطبيع مع نظام الأسد”. والتي أوصلت عبرها رسائل إلى كافة القوى الإقليمية بأنه لا يمكن لأحد تحقيق أي اختراق للعملية السياسية في سوريا عبر القفز على المصالح الأمريكية.

وبما أن الخزائن الفارغة إثر الانهيار الاقتصادي التي تعصف بكل من تركيا ومصر كانت أبرز أسباب هذا التقارب والتطبيع بين البلدين، فهذا يعني أن هذه العلاقات قد لاتصل إلى مستوى حل كافة الخلافات بينهما، بسبب عدم جدّية تركيا في التخلي الإيديولوجي عن “الإخوان” ولا نية لها الانسحاب من سوريا، بالإضافة إلى التعقيدات في الملفات الخلافية الأخرى ما بين تركيا ومصر؛ كليبيا والبحر المتوسط والعلاقات مع اليونان.

[1] – (مركز أضواء للبحوث والدراسات، 4 مارس/آذار 2024). https://n9.cl/7a1xjv

[2] – المصدر السابق

[3] – (صحيفة الأهرام المصرية، 4 مارس/آذار 2024) https://n9.cl/3w8az4

[4] (العربية نت 19 فبراير 2024) https://n9.cl/ow6xp5

[5] -(وكالة الأناضول التركية 21 أغسطس 2023) https://n9.cl/ow6xp5

المصدر: مركز الفرات للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية