عبدالكريم سليمان العرجان
عندما استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره السوري أحمد الشرع في قصر الإليزيه، لم تكن الزيارة مجرد مراسم سياسية بروتوكولية، بل كانت إعادة فتح لبوابةٍ ظلّت موصدة منذ أكثر من عقد من الزمن. في لقاءٍ كثّف رمزية الزيارة الأولى لرئيس سوري إلى بلد غربي، بدا واضحاً أن ماكرون أراد توجيه رسالة مزدوجة، فرنسا لن تنسحب من المعادلة السورية، ولن تترك الأكراد في العراء.
على الطاولة، لم يضع ماكرون ملفات الأمن والهجرة فقط، بل رفع ورقة الأكراد إلى مستوى القضية الأوروبية. “لن نترك الأكراد السوريين دون دعم،” قالها الرئيس الفرنسي بشكل مباشر، مُذكّراً بالدور الكردي في مواجهة تنظيم داعش واحتواء رعاياه من الدول الغربية.
لكن هذه ليست مجرد مشاعر وفاء. ما يحدث هو تحويل “الثقل الأخلاقي للأكراد” إلى ورقة ضغط سياسية على الشرع، وعلى تركيا في آنٍ واحد. إذ تدرك باريس أن أنقرة تسعى لتفريغ الشمال السوري من أي كيان كردي مستقل، وتخشَى أن يتم ذلك بمباركة دمشق إذا غاب الموقف الأوروبي الصلب.
فرنسا، التي كانت تدافع سابقاً عن “علمانية المعارضة”، باتت الآن تحمل على عاتقها الدفاع عن هوية قومية عابرة للحدود في مواجهة الإسلام السياسي التركي، في سياق يعيد تعريف التحالفات القديمة.
ماكرون وعد بالعمل على رفع تدريجي للعقوبات الأوروبية، بل وحثّ واشنطن على تأجيل انسحابها العسكري من سوريا، لكنه في الوقت ذاته، كما قال وزير خارجيته، “لا يكتب شيكاً على بياض.”
ما يحصل هو إعادة تفعيل المعادلة النابليونية للنفوذ، إذا أردت أن تعود إلى الشرق، فابدأ بتجهيز جسر من الاقتصاد والسياسة والرمزية التاريخية. فرنسا تحاول استعادة موقعها عبر مسار مزدوج، مكافأة رمزية عبر اللقاء والدعم، وشروط صلبة تتعلق بحماية الأكراد، وعدم تكرار تجربة الأسد، والانخراط في محاسبة الطائفيين.
وراء الأبواب المغلقة، كان اللقاء الثلاثي عبر الفيديو بين الشرع والرئيس اللبناني جوزيف عون حاسماً. فرنسا تخشى الانهيار اللبناني، وتعتبر سوريا مفتاح التوازن في شرق المتوسط، خاصة في ظل تراجع الدور الأميركي وصعود تركيا وروسيا.
باريس تدير عملية إعادة التموضع في المنطقة عبر نظام روابط متكامل، سوريا، لبنان، أكراد الشمال، وعلاقات مع قطر لتمويل القطاع العام السوري، وهو ما حصلت عليه واشنطن مؤخراً كضوء أخضر لفرنسا.
البنك الدولي يقدّر تكلفة إعادة الإعمار في سوريا بأكثر من 250 مليار دولار. فرنسا تعرف أن لحظة التقاط الأنفاس في دمشق ستكون لحظة التقاط فرص في العواصم الغربية. أوروبا قد تعود إلى سوريا لا بصفتها مانحة، بل كمصمّمة لمعادلة سياسية-اقتصادية جديدة، حيث كل استثمار سيكون مشروطاً بضمانات ديمقراطية، وحضور كردي، ورقابة أوروبية في البنية المالية للدولة السورية القادمة.
زيارة الشرع إلى باريس ليست نهاية عزلة دمشق، بل بداية سباق على من يكتب نصّ عودة سوريا إلى المسرح الدولي. فرنسا اختارت أن تفتح الأبواب بهدوء، لكنها وضعت شرطاً أساسياً، لا تسويات على حساب الأكراد، ولا عودة دون تغيير.
ومع انفتاح الباب الفرنسي أمام دمشق، تبقى الأسئلة مفتوحة، هل يلتزم الشرع بتوازن معقد يُرضي باريس دون إغضاب أنقرة؟ وهل تملك أوروبا ما يكفي من أدوات النفوذ لتثبيت معادلة جديدة في سوريا قبل أن تسبقها موسكو أو تُفاجئها واشنطن؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بكشف حدود هذا التحول ومدى قدرته على الصمود.
المصدر: العرب اللندنية
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=68716