بين وعي الانتماء وزيف الهوية المصطنعة

د. محمود عباس

رؤية في الوعي القومي والهوية الوطنية السورية

في الأيام الأخيرة، أثارت الدعوة المفاجئة لأحمد الشرع إلى البيت الأبيض سلسلةً من التحليلات المتباينة في الأوساط السياسية والإعلامية، رافقتها حملة مدروسة لتظهير وجوهٍ سورية وكوردية جديدة في المشهد الأمريكي، في محاولةٍ لإعادة رسم التوازنات بين القوى الوطنية الحقيقية التي أثبتت حضورها على الأرض، وفي مقدمتها قوات قسد والحراك الكوردي ومن ضمنها الإدارة الذاتية، والمنظمات الإرهابية ومن بينهم الحكومة السورية الانتقالية.

ومن بين تلك الوجوه، برزت السيدة ياسمين معمو وزوجها في لقاءٍ إعلامي حمل أكثر مما قاله، ففتح الباب واسعًا أمام سؤالٍ قديمٍ جديد، ما معنى أن تنتمي؟ أهو انتماءُ الجغرافيا السياسية التي ولدت ووُلدنا فيها صدفة، أم انتماءُ الوعي الذي يربط الإنسان بجذوره الحضارية والتاريخية؟

في خضمّ الجدل الذي أثارته تصريحات زوج السيدة ياسمين معمو، والتي تعكس شريحة من الكورد السوريين بدأت تُدفع إلى الواجهة الإعلامية بدوافع إقليمية غامضة وغايات سياسية خبيثة، برزت المقارنة بين ما قاله وبين ما صرّح به الجنرال مظلوم عبدي تعليقًا على زيارة أحمد الشرع إلى البيت الأبيض، وكان لا بدّ من التوقف عند الفارق الجوهري بين منطق الانتماء السطحي ووعي الانتماء الحقيقي.

فما قاله طارق نعمو عبّر عن خلطٍ بين الهوية الوطنية والانتماء القومي، ذلك الخلط الذي يتيه فيه بعض الكورد بحكم الولادة لا القناعة، حين اختزلوا الوطن في حدوده السياسية الضيقة، متناسين أن الانتماء إلى سوريا كوطن لا يلغي الانتماء إلى الأمة الكوردية التي تمتد جذورها في عمق التاريخ قبل أن تولد الكيانات الحديثة. فالوطن إطارٌ سياسي متغيّر، أما القومية فهي هوية حضارية وثقافية متجذّرة لا تُباع ولا تُشترى، ولا يمكن اختزالها بخطوطٍ رسمتها المصالح الاستعمارية والاتفاقيات المصطنعة.

أما الجنرال مظلوم عبدي، المنتمي إلى فلسفة الأمة الديمقراطية، مهما بدت طوباوية في ظروفٍ معقّدة كهذه، فقد عبّر عن موقف وطني رصين ومسؤول حين أكّد أن سوريا وطنٌ لجميع أبنائها، وأن المشاركة الكوردية في مستقبلها ليست تنازلًا عن القومية، بل تجسيدًا لمفهوم الشراكة المتكافئة بين المكوّنات. فالهويّة الكوردية ليست نقيضًا لسوريا، بل أحد أعمدتها التاريخية الأصيلة، وبناء الدولة لا يتحقق إلا بالاعتراف المتبادل والعدالة في التمثيل، لا بالإقصاء والإنكار.

الفارق بين الخطابين واضحٌ جليّ، أحدهما ارتجالي يجهل معنى الانتماء وتتبنّاه فئة مأزومة الوعي، والآخر واعيٌ يعكس إدراكًا للمسؤولية التاريخية. فالأول يكرّس ذهنية الإنكار التي غذّتها الأنظمة الشوفينية، بينما الثاني يفتح أفقًا لسوريا جديدة تتّسع لكل أبنائها دون أن تُمحى فيها هوية أحد.

إنّ سوريا ليست انتماءً، بل هوية وطنية، أما القومية أو المذهب فهما انتماءان فكريّان وثقافيّان وروحيان. يستطيع الإنسان أن يبدّل مذهبه حين تتغيّر قناعاته، لكن من يبدّل قوميته إنما يتنكر لجذوره وينفصل عن ذاته وتاريخه، فالقومية ليست شعارًا سياسيًا، بل موروثٌ إنساني عميق يتجاوز حدود الدين والزمن والجغرافيا.

سوريا الحديثة، كما نعرفها اليوم، لم تولد من رحم التاريخ الطبيعي، بل من اتفاقٍ استعماري بين فرنسا وبريطانيا قبل قرنٍ فقط، أما القوميات التي تشكّل نسيجها فكانت قائمة قبل ولادة هذه الدولة، منبثقة من حضاراتٍ ضاربةٍ في عمق الزمن، والانتماء القومي لا يعني التعصب، بل يمكن للإنسان أن يكون في قوميته حضاريًّا متفتحًا، كما يمكن أن يغرق في سطحيةٍ زرعتها الأنظمة المستبدة.

وما قدّمته السيدة ياسمين معمو كان في جوهره خدمةً لسوريا كوطن، لكنها حين أعلنت انتماءها الكوردي عبّرت عن صدقٍ مع الذات وانسجامٍ مع الأصل، أمّا زوجها، فأنكر قوميته بضحالةٍ فكريةٍ وجهلٍ ثقافيٍّ فادح، ظنًّا منه أن التنكّر للأصل دليل ولاءٍ للوطن، بينما الحقيقة أن من لا يعرف جذره لا يمكنه أن يبني وطنًا.

فلو لم تُخلق سوريا الحديثة بقدرة القوى الاستعمارية قبل مئة عام، لما قال أحد اليوم “أنا سوري” بهذا المعنى السياسي الطارئ، بل لقال كما يقول التاريخ: أنا كوردي، أو عربي، أو آرامي، أو سرياني، أي منتمٍ إلى أصلٍ حقيقي داخل الجغرافيا السورية، انتماءٌ لا يُنقص من الوطنية شيئًا، بل يُثريها. فالفهم الحضاري العميق لا يرى في التعدد ضعفًا، بل قوةً تصنع التوازن والهوية الجامعة.

إنّ ما صرّح به مظلوم عبدي ينطلق من هذا الوعي المزدوج بالانتماءين الوطني والقومي؛ فهو يرى في سوريا وطنًا جامعًا، في هذه المرحلة، يجب أن يسودها الأمن والاستقرار، دون أن يتخلى عن انتمائه الكوردي والكوردستاني الذي يمثل جوهر هويته وامتداده الطبيعي في هذه الأرض.

فموقف الحراك الكوردي عامةً، في دقّته ووعيه، وطوال نضاله السياسي والذي يمتد قرابة قرن من الزمن، يعكس قدرة ناضجة على الموازنة بين الولاء للوطن والانتماء للأمة، مؤكّدًا أن الهوية الكوردية ليست خصمًا لسوريا، بل رافدٌ أساسي في تاريخها وتكوينها.

وبهذا الخطاب المتّزن، الذي يعبّر عنه الحراك الكوردي وتتبنّاه رؤية مظلوم عبدي، تُزال الفواصل المصطنعة بين الكورد كشعبٍ أصيل وسوريا كوطنٍ جامع، في مواجهة الأنظمة الشوفينية، من حكم البعث إلى ما يُسمّى بالحكومة الانتقالية اليوم، والتي اعتادت إقصاء المكوّنات وتذويب تنوعها في خدمة نظامٍ أحاديّ مريض.

إنّ ما قاله مظلوم عبدي ليس خطابًا سياسيًا عابرًا، بل دعوة صادقة إلى وطنٍ يتسع للجميع دون إنكارٍ لأي هوية، وطنٍ تُبنى وحدته على العدالة والاعتراف المتبادل لا على محو الذاكرة وتكرار خطايا الإقصاء التي مزّقت سوريا لعقودٍ طويلة.

وإذا كان الجدل بين مفهومي الوطن والقومية قد أعاد تسليط الضوء على معنى الانتماء الحقيقي، فإنّ المشهد الأمريكي اليوم يعيد بدوره رسم معادلة النفوذ في سوريا على ضوء هذا الإدراك ذاته. لم يعد خافيًا على صُنّاع القرار في واشنطن أن تجاوز المكوّن الكوردي هو تجاوزٌ للواقع وللمنطق معًا، وأن بناء سوريا المستقبل لن يتحقق إلا بشراكةٍ حقيقيةٍ مع القوى التي هزمت الإرهاب ودفعت ثمن البقاء.

فالإدارة الأمريكية، وإن أخطأت في حساباتها الأولى، بدأت تدرك أن الهوية الوطنية لا تُختزل في مركزٍ أو نظام، بل تُبنى على تنوّعٍ واعٍ وتكاملٍ إنساني، وأن الكورد ليسوا تفصيلًا في المشهد السوري، بل قلبه النابض الذي يمنح فكرة الدولة معناها الأخلاقي والسياسي معًا.

الولايات المتحدة الأمريكية

12 / 11 / 2025م

Scroll to Top