مصطفى مصطفى – باحث في مركز الفرات للدراسات
يُعدّ ملف إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد، ودمج الفصائل والقوى التي تشكلت وتأسست في ظلّ الحرب السورية من أبرز الملفات الهامة والملحة على الساحة السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024، حيث دخلت سوريا مرحلة جديدة، تحاول إعادة بناء مؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية. ومن أبرز التطورات في هذا السياق هي مسألة اندماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش السوري الجديد، والتي تعدّ خطوة ذات أبعاد سياسية وأمنية وإدارية حاسمة، قد تساهم في رسم ملامح الدولة السورية المستقبلية، سيما علاقات دمشق مع شمال شرق سوريا. لكنْ إلى جانب أهمية هذ الملف، هناك مجموعة تحديات تواجه عملية إعادة الهيكلة والاندماج، وقد تحتاج إلى تفاهمات ومشاورات أكثر، ووقت أطول، وهذا يبدو واضحاً في مسار المفاوضات التي لا تزال جارية بين الحكومة المؤقتة في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، والتي بدأت بشكل رسمي في آذار 2025 بعد توقيع اتفاقية بين الطرفين. فالعملية ليست مجرد شأن عسكري بحت، بل ركيزة أساسية لإعادة بناء دولة مستقرة، وبالتالي تستلزم منهجية شاملة ومتعدّدة الجوانب، تأخذ بعين الاعتبار التنوع الثقافي والقومي والطائفي لمكونات الشعب السوري.
إنّ قوات سوريا الديمقراطية التي نشأت في سياق معقد عقب تمدد تنظيم داعش في شمال وشرق سوريا، تحولت بشكل تدريجي إلى قوة عسكرية منظمة، تمتلك هيكلاً إدارياً واضحاً وتجربة ميدانية طويلة في محاربة الإرهاب، لذا تبدو الخطوة الأخيرة المتمثلة في تسليمها قوائم بأسماء قادتها العسكريين للتحالف الدولي، تمهيداً لدمجهم ضمن الجيش السوري الجديد، بمثابة لحظة اختبار لمسار التحولات الجارية فيما يخص عملية دمج قسد، والمفاوضات بينها وبين حكومة دمشق، فالمعلومات التي تفيد بتحديد ثلاثة فرق ميدانية وثلاث ألوية خاصة للدمج، وتخصيص نسبة من المناصب القيادية في هيئة الأركان ووزارة الدفاع لقادة قسد، تصل إلى نحو 30 بالمئة، والتي تحدثت عنها صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، تشير إلى أنّ العملية هي ذات أبعاد سياسية تخصّ مناطق شمال وشرق سوريا، وتعكس تفاهمات بين الجانبين سيما ما يتعلق بالحفاظ على خصوصية هذه المنطقة ومؤسساتها، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية، ولا تقتصر فقط على التنسيق الأمني. والأكثر دلالة في هذا السياق أن أحد الألوية المقترحة ستكون مهمته مكافحة الإرهاب بالتعاون مع التحالف الدولي، وبالشراكة مع الحكومة السورية، ما يعني بأن واشنطن تسعى لترسيخ نفوذها حتى في حال تغير شكل النظام في دمشق، عبر صيغة “دمج منضبط” يضمن استمرار التعاون مع قسد التي أثبتت فاعليتها في الحرب على داعش.
ويبدو أنّ هذا الهدف يتم تحقيقه من خلال انضمام حكومة أحمد الشرع إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فتصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم براك، في بداية الشهر الحالي نوفمبر/ تشرين الثاني، حول زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن لتوقيع اتفاق الانضمام إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، تمثل تطوراً نوعياً في مسار العلاقات السورية – الأميركية. هذا التصريح يشير إلى أنّ واشنطن لا تكتفي بإعادة ترتيب المؤسسة العسكرية من خلال دمج قسد في الجيش السوري، بل تمضي نحو ترسيخ إطار رسمي للتعامل مع السلطة السورية الجديدة، مما يعزز وجودها كضامن دولي أكثر شرعية لشكل المرحلة الانتقالية في سوريا.
بعبارة أخرى، فإن كلام براك يعكس انتقالاً امريكياً ممنهجاً من مرحلة التنسيق الميداني مع دمشق إلى الاعتراف السياسي، إذ تهدف واشنطن من خلاله إلى تحويل الحرب على الإرهاب إلى أرضية لترتيب وترسيخ النفوذ في سوريا، دون أن يتغير شيء في طبيعة علاقتها وشراكتها مع قسد. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ شكل اندماج قسد ضمن الجيش السوري الجديد يشير إلى حفاظ قسد على خصوصيتها حيث الاندماج ككتل وليس بشكل فردي، وهذا كان شرطاً أساسياً لقسد لاندماجها ضمن الجيش السوري، وأنّ التغيير سيطرأ فقط على جوانب شكلية كتحول أسماء المجالس العسكرية المنضوية تحت سقف قسد إلى فرق وألوية مع بقاءها ضمن إطار حماية مناطق سيطرتها، تمثلها قيادات اقترحتها قسد لتعيينها ضمن وزارة الدفاع السورية وبالتنسيق مع الأخيرة. وهذا الترتيب يخدم مسألة خصوصية قسد ومناطق سيطرتها، وأيضاً استراتيجية أمريكا في ملف محاربة داعش في ظل الفوضى والانقسام الفصائلي التي تعاني منها الحكومة السورية المؤقتة ضمن مؤسساتها، سيما العسكرية والأمنية في مناطق سيطرتها والتي قد تعيق عمليات وجهود التحالف الدولي لمحاربة داعش.
لقد استطاعت قوات سوريا الديمقراطية منذ تأسيسها ضم مكونات شعوب شمال وشرق سوريا من الكرد والعرب والسريان تحت مظلتها، إلى جانب منح مكانة هامة ورئيسية للمرأة ضمن صفوفها. ومن هنا، فإن أيّة مقاربة تتعلق بدمجها في الجيش السوري الجديد يجب أن تراعي هذه الخلفية المتعددة، خاصة فيما يخص دمج قوات حماية المرأة (YPJ) حيث أكدت القيادية في قوات سوريا الديمقراطية، روهلات عفرين، في مقابلة إعلامية بتاريخ 18 تشرين الأول 2025، أنّ “الوحدات لن تكون جزءاً من أيّ حلّ سياسي أو عسكري يهدد استقلاليتها أو مكاسبها في حقوق المرأة”. كما أنّ المقاربة يجب أن توازن بين الاعتراف بدور قسد العسكري والسياسي، وبين إدماجها في مشروع وطني سوري جامع، وهذا بحدّ ذاته تحدي واقعي، واختبار حقيقي لنوايا الحكومة المؤقتة في دمشق، وكذلك الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الملف السوري حول المضي بسوريا إلى بر الأمان، والسعي نحو استقرارها.
إنّ التحدّي الأكبر لا يكمن في قرار الدمج بحد ذاته، بل في كيفية تنفيذه على أرض الواقع مع وجود مؤسسات عسكرية وأمنية منهكة وغير منضبطة تقوم –كما الجيش السوري السابق- على عقيدة طائفية تدافع عن النظام لا عن المجتمع، بالإضافة إلى أن وجود المقاتلين الأجانب ضمن الجيش السوري الجديد يمكن أن يعرقل جهود الاندماج، وإعادة بناء جيش وطني منضبط ومتماسك، حيث أنّ العديد منهم يحمل ولاءات عابرة للحدود، وأجندات قد تتعارض مع المصالح الوطنية السورية كما يثير مخاوف الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. ورأينا ذلك في الأحداث التي شهدها الساحل السوري، ومحافظة السويداء من انتهاكات ومجازر على يد العناصر الموالية للحكومة المؤقتة، وبالتالي هناك تباين واختلاف حتى في العقيدة بين قسد والفصائل المنضوية تحت سقف وزارة الدفاع السورية، لذلك فإن الحفاظ على خصوصية قسد والاستفادة من نموذجها اللامركزي نسبياً بإعطاء دور للمجالس المحلية –التي ستتحول إلى فرق- في إدارة شؤونها الأمنية هو حاجة ضرورية تخدم عملية الدمج وارساء الاستقرار على كامل الأراضي السورية.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن النظر إلى عملية دمج قسد ضمن الجيش السوري الجديد دون إعطاء أهمية لدور دول إقليمية كتركيا، سيما أنّ هناك فصائل مسلحة في الشمال السوري انضمت شكلياً إلى وزارة الدفاع السورية ولا تزال مدعومة من قبل تركيا ومولية لها. فالولايات المتحدة الأمريكية والتي يبدو أنها تقود المفاوضات بين طرفي الدمج وتدعم قسد عسكريا في حربها على تنظيم داعش، تجد نفسها أمام معضلة استراتيجية؛ فهي من جهة ترى في قسد شريكاً فاعلاً ضد الإرهاب، ومن جهة أخرى تدرك أن استمرار وجودها كقوة مستقلة يثير حساسيات إقليمية، خصوصا مع تركيا، لذلك ليس من المستبعد أن تكون تركيا هي من تقف وراء تأخير عملية دمج قسد إلى الآن والعمل على التأثير في شكل الدمج وهيكلية الجيش الجديد، وكذلك تكون هي وراء الحملة التحريضية التي بدأت ضد قسد في الداخل السوري بعد كشف تفاصيل الاندماج، والتفاهمات التي حصلت في آخر لقاء جمع الطرفين الرئيسيين لعملية الدمج.
بالمقابل، فإنّ دمج قسد والتي يقدر عدد مقاتليها ومقاتلاتها بـ 100 ألف –إذا ما تم ضمن إطار وطني جامع- من الممكن أن يؤدي إلى بناء علاقات جديدة بين دمشق والأطراف الأخرى، سواء في المناطق الساحلية أو في الجنوب السوري التي فقدت ثقتها بمستقبل البلاد، في ظل وجود سلطة تكرس اللون الواحد والعقيدة الواحدة. فمناطق الإدارة الذاتية، والتي تتمتع بعلاقات جيدة مع كافة المناطق المناهضة لسياسات حكومة الشرع، أثبتت خلال السنوات الماضية قدرة على إدارة شؤونها، رغم التحدّيات الأمنية. وإن دمج هذه الخبرة ضمن الدولة الجديدة الاستفادة منها، بدل تهميشها أو تفكيكها، يمكن أن يساهم في تعزيز مفهوم اللّامركزية، الذي قد يشكل أساساً لتسوية وطنية دائمة. فالمشكلة لم تكن يوماً في وجود التنوع، بل في غياب إدارة عادلة له. فالدمج الحقيقي لن يتحقق من خلال مراسيم أو قرارات حكومية أو حتى مؤتمرات شكلية تتبنى خطاب السلطة وشروطها تحت عنوان “الوطنية”، بل عبر بناء ثقة متبادلة قائمة على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات. يجب أن تشعر جميع مكونات الشعب السوري أن الجيش الجديد يمثلهم جميعاً، وأنْ لا أحد فيه “مواطن درجة ثانية”. وهذا يقتضي خطاباً سياسياً جديداً من قبل السلطات الجديدة في دمشق يعكس التنوع الموجود ويعترف بجميع المكونات على حد سواء.
ختاماً نستطيع القول إنّ عملية دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد وإعادة هيكلة الأخير هي عملية معقدة بسبب وجود تباينات تعرقل مسار الدمج، وهي ليست سهلة ولا سريعة، وتحتاج إلى مزيج من الانضباط والتعامل الحذر لأنها تمثل فرصة لإصلاح مفهوم احتكار الدولة للقوة، وتتطلب توافقاً سياسياً داخلياً يقابله تفاهم إقليمي، ودولي يضمن دعم العملية بدل إفشالها.
المصدر: مركز الفرات للدراسات
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=79355




