د. محمود عباس
دفع دونالد ترامب جنديين أميركيين ومترجمًا ثمن تحالفٍ متسرّع مع ما يُسمّى الحكومة السورية الانتقالية ذات الجذور التكفيرية، وهي في جوهرها امتداد لمخلّفات فرق أبي مصعب الزرقاوي، وذلك بعد أقلّ من شهرين على هذا التحالف الذي جاء نتيجة الرضوخ لإغراء المال السعودي وضغط اللوبي التركي.
وليس مستبعدًا أن تكون هذه الحادثة فاتحة لمسارٍ كارثي يعيد إلى الأذهان السنوات القاتمة التي استنزفت الجنود الأميركيين في العراق، في مقابل مرحلةٍ كان فيها الوجود الأميركي أكثر استقرارًا وأقلّ كلفة في كوردستان، خلال التحالف مع البيشمركة.
ومع ذلك، ظلّ القرار الأميركي أسيرَ موازناتٍ خاطئة، انحاز فيها مرارًا إلى قوى شيعية وسنية على حساب الشعب الكوردي، وساعد حكومات بغداد المتعاقبة على تطويق إقليم كوردستان، ومنع تعميم النظام اللامركزي الفيدرالي على كامل العراق. وبلغ هذا المسار ذروته بمعارضة الاستفتاء الكوردستاني، في واحدة من أكثر اللحظات تناقضًا مع مبادئ تقرير المصير التي تدّعيها واشنطن. ثم جرى تسويق التجربة الفيدرالية في العراق على أنها فاشلة، من دون تحديد مكامن فشلها، مع تجاهلٍ متعمّدٍ لحقيقة الاستقرار والنمو الكبيرين في إقليم كوردستان؛ إذ لولا هذا الإطار الفيدرالي لكانت هولير ودهوك والسليمانية اليوم في حالٍ لا يختلف كثيرًا عن الواقع المزري الكارثي الذي تعيشه البصرة والنجف وبغداد تحت سلطة المركز.
والمفارقة الأشدّ فداحة أنّ ترامب، بدل أن يراجع خياراته، مضى إلى تبرئة الجولاني وحكومته وتنظيماته، بل وهنّأه على “حرصه” و“أسفه” على الحادثة، في سلوك سياسي يشي بالاستخفاف بالنتائج وبالدم الأميركي المسفوك. وعلى الأرجح، فإنّ ثمن هذه المجاملة السياسية سيكون باهظًا، وقد تتحوّل إلى صفحة سوداء في ولايته الراهنة، تمامًا كما فعلت صفقة 2019 مع أردوغان في الدورة الأولى من رئاسته، التي أسهمت في إنعاش تنظيم داعش من جديد، وكلّفت الولايات المتحدة مليارات الدولارات، فضلًا عن تقويض مصداقيتها الأخلاقية والسياسية.
وعلى امتداد اثني عشر عامًا من التحالف الأميركي مع قوات الحماية الشعبية، ثم قوات قسد، ومع وجود القوات الأميركية في غربي كوردستان ومناطق شمال وشرق سوريا الخاضعة للإدارة الذاتية، لم تُسجَّل حوادث مماثلة، ولم تُدفَع مثل هذه الأثمان، بل كان الجنود الأميركيون—كما يُقال—ينامون ويتحرّكون في تلك المناطق بأمانٍ كامل، في مفارقة فاضحة تكشف الفرق بين شراكةٍ قائمة على الثقة والاستقرار، وتحالفاتٍ مرتجلة تُبنى على أوهام سياسية قصيرة النظر.
وهو فارق جوهري لا يمكن تجاهله، وسيُقلق حتمًا الأوساط السياسية والأمنية في واشنطن، وقد يوقظ تلك الدوائر التي اندفعت سابقًا لدعم الانفتاح على التنظيمات التكفيرية الإرهابية، رغم التحذيرات المتكررة. فالمعروف، ولم يعد سرًّا، أن نسبة كبيرة من فلول داعش اندمجت في هيئة تحرير الشام، وأن ما يُسمّى بقوات الأمن والجيش السوري المتشكّل بالتطوّع، يتكوّن في غالبيته من مقاتلين ذوي خلفيات جهادية، انخرطوا بدافع “الجهاد”، لا لبناء دولة. وهي قوات فُتحت لها الأبواب عبر تركيا، التي تولّت تشكيلها وتدريبها، وتلقينها خطاب العداء للغرب، بوصفه حليفًا لقوات قسد والحراك الكوردي.
في ضوء ذلك، لا يبدو هذا المسار سوى إعادة إنتاجٍ لأخطاءٍ قديمة، لكن بأدوات جديدة، حيث يُستبدل التحالف المستقرّ بشراكاتٍ ملوّثة، ويُغامر بالأمن الأميركي تحت عناوين قصيرة النظر، سرعان ما تنقلب على صانعيها.
الولايات المتحدة الأمريكية
13/12/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=81243





