بعد أن تشكّلت الدولة التركية الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية جرّاء الحرب العالمية الأولى إثر اتفاقية لوزان 1923 جعلت من مسألة وجود الشعب الكردي والقضية الكردية مسألة حياة أو موت للجمهورية، لذلك اتّخذت السياسة التركية تجاه القضية الكردية الطابع العسكري والحلّ الأمني لها، من خلال رفض وجود القضية، ومواجهة الكرد وأنشطتهم ولغتهم وثقافتهم ووجودهم القومي والثورات والتمرّدات الكردية بالحديد والنار، إلى جانب العمل الممنهج على صهر الشعب الكردي، من خلال سياسات التتريك والتهجير والإبادة وما رافقتها من سياسات التغيير الديمغرافي لكردستان، حيث وصلت الحكومات التركية نتيجة لتلك السياسات والإبادات إلى قناعة تامّة بأنّ القضية الكردية في تركيا لن تعود لترى النور من جديد، وأنّها قد دُفِنت إلى الأبد، وعبّرت عن ذلك الصحافة التركية جليا أثناء ثورة آكري، ففي 1930 نشرت صحيفة (ملّيَت ) التركية صورة جبل آكري معقل ثورة الجنرال إحسان نوري باشا قائد الثورة الكردية، وعليه قبر مع عبارة تقول: “هنا دُفِنت كردستان الخيالية” علما أنّه بعدها بعدّة سنوات كانت ثورة ديرسم 1937-1938 والتي تعرّضت لأبشع المجازر على يد الجيش التركي بعد إخمادها، ووصل عدد الضحايا بحسب بعض المصادر إلى 75 ألفا من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، في الوقت الذي ذكر فيه الرئيس التركي أردوغان أنّه قد تم قتل عشرة آلاف، وقدّم اعتذارًا في 2011 عن المجزرة محمّلًا حزب الشعب الجمهوري المسؤولية كونه كان في سدّة الحكم حينها. وصلت سياسات الإبادة والتهجير إلى ذروتها بعد القضاء على آخر الثورات الكردية في شمال كردستان “ثورة ديرسم 1937”. غير أنّ كردستان التي أعلنت تركيا عن دفنها عادت من جديد إلى الواجهة بعد فترة صمت طويلة امتدت من 1939 وحتى 1978 ليأتي حزب العمال الكردستاني (الذي أسّسه السيد عبد الله أوجلان في 1978) ويعلن أنّ كردستان والقضية الكردية موجودتان ولا بدّ من الحل. وإثر التوجّه التركي لإبادة الحزب ووأده عسكريًا أعلن حزب العمال الكردستاني الكفاح المسلّح سنة 1984 وأدخل تركيا في مواجهة جديدة مع القضية الكردية، لتشهد فترة الثمانينات والتسعينات مواجهات دامية، ولم تستطع تركيا إنهاء ثورة العمال الكردستاني الذي اتخذ نضاله طابعًا محلّيًا وإقليميًا ودوليًا، ولم تعد تركيا قادرة على احتوائها، وهو ما دفع الناتو والحلفاء الغربيين بتركيا وبالتعاون مع بعض الدول العربية لتنفيذ مؤامرة دولية لاعتقال السيد عبد الله أوجلان وسجنه في جزيرة إمرالي في 1999م، ومع ذلك استمرت ثورة العمال الكردستاني، ودعا خلالها السيد أوجلان إلى السلام وحلّ القضية الكردية، وقبل ذلك كان هناك ولأكثر من مرة وقف لإطلاق النار من جانب واحد في 1993و1995 و 1998 من قبل حزب العمال الكردستاني ليفسح المجال أمام الحلّ السلمي للقضية الكردية، لكنّها لم تلقَ مبادرات مماثلة أو خطوات ملموسة من الجانب التركي لتعزيز الثقة.

الدور الوظيفي لتركيا وتكتيك السلام:

لا يمكن عزل تركيا في سياساتها الخارجية والداخلية عن الدور المناط بها من قبل الحلف الأطلسي وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، لذلك لم يكن مجيء حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم في 2002 مجرّد فوز انتخابي أو حالة ديمقراطية بقدر ما كانت متطلبات مرحلة جديدة من الصراعين الإقليمي والدولي حول الهيمنة، فالولايات المتحدة الامريكية ووفقًا لمشروعها الساعي لتعزيز هيمنتها كقطب أوحد في العالم ومواجهة كلّ من الصين وروسيا سعت إلى تقديم “العدالة والتنمية” الذي سوّق لنفسه كحركة إسلامية معتدلة وإصلاحية كنموذج يمكن الاحتذاء به في العالم الإسلامي، واحتواء المنطقة من خلاله، لذلك حظي حزب العدالة والتنمية باهتمام الغرب ودعمه، وفعلًا تحوّلت تركيا بخطوات متسارعة إلى نموذج وعامل جذب، وامتلكت شعبية واسعة في العالمَين العربي والإسلامي، وداخليًا حدثت قفزة نوعية في الجوانب الاقتصادية، وبدأت بالحديث عن التغييرات الديمقراطية، ومنها الانفتاح على القضية الكردية؛ ففي 2005 دخلت تركيا في مفأوضات مباشرة مع السيد أوجلان وقادة الحزب، وكانت النتيجة مفأوضات ما سمّيت بمفأوضات أوسلو 2009 وانتهت في 2015م؛ فتركيا لم تكن تسعى إلى السلام بقدر ما كانت تسعى إلى كسب الوقت والتهدئة وإضعاف العمال الكردستاني، إلى جانب بناء نفسها وقوّتها سواء العسكرية أو الاقتصادية خلال سنوات الهدوء، فمنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا كان طموحه إنهاء القضية الكردية قبل 2023م، حيث مئوية لوزان وإعلان الجمهورية الثانية مصبوغة بصبغة إخوانية إسلامية، من خلال إلحاق الدول التي فصلت من أراضي الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى جراء اتفاقية سايكس بيكو 1916 ومن ثم اتفاقية لوزان 1923م، وتحقيق القرن التركي التوسّعي، وظهر ذلك جليا مع بداية الربيع العربي 2010- 2011 فتركيا التي اتبعت بداية القوة الناعمة ( اقتصاديا وثقافيا وتجاريا ) ومن خلال سياسة “صفر مشاكل” مع الجوار لتحقيق أهدافها العثمنلية، لكن بعد بدء ما سمّيت بثورات الربيع العربي، وعلو شأن الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية في المنطقة، والسقوط التراجيدي للأنظمة العربية تحوّلت من سياسة “صفر مشاكل” إلى سياسة تأجيج المشاكل والتدخّل المباشر في المنطقة ودول الربيع العربي، واتبعت سياسة التدخّل المباشر والقوة العسكرية، حيث وجدت أنّ الفرصة سانحة لها، فكان لا بدّ لها من الكشف عن وجهها الحقيقي تجاه القضية الكردية، وإنهاء عملية السلام مع السيد أوجلان، إلى جانب التخلّص من دورها الوظيفي ضمن الاستراتيجية الغربية كإسلام معتدل، لاحتواء المنطقة و تنفيذ مشروعها الخاص في تحقيق حلم إحياء الدولة العثمانية البديلة عن جمهورية كمال اتاتورك، لكن وعلى الرغم من تمكّن تركيا من الاستثمار في حركات الإخوان والفصائل الإسلامية وحتى النصرة وداعش والقدرة على تدويرها وفقًا لأجنداتها، بحيث وصل طموحها إلى إسقاط نظام دمشق وتمكين الإسلاميين من الحكم فيها، بالتوازي مع التمدّد في شمال إفريقيا ( ليبيا ومصر وتونس) غير أنّها وبغضّ النظر عن الدور الروسي والتحالف الدولي في كبح طموحاتها الكبيرة، فإن العامل الأساسي لتراجع جموح تركيا في الاندفاع نحو تحقيق طموحاتها الكبيرة كان العامل الكردي والقضية الكردية، خاصة في ظلّ بروز العمال الكردستاني كقوة فاعلة في باشور كردستان، ومواجهة داعش في شنكال وحماية الكرد الايزيديين من الإبادة، وصعود نجم القوات الكردية ((YPG-YPJ في غرب كردستان وتحريرها مناطق واسعة من الشمال السوري وروجافا من الفصائل الإسلامية التي كانت تدعمها تركيا، وتحوّل هذه القوات إلى شريك للتحالف الدولي في محاربة داعش، وهزيمة حليفها داعش في كوباني، فخشيت تركيا من أن تؤدّي عملية السلام مع الكرد في الداخل وصعود قوة الكرد في روجافا إلى اضطرارها لتقديم المزيد من التنازلات، وخروج القضية الكردية من إطار الحلول الضيّقة والشكلية التي كانت تخطّط لها تركيا “لذرّ الرماد في العيون” والقضاء على العمال الكردستاني لاحقا وبشكل تدريجي، لذلك حوّلت تركيا جلّ اهتمامها وقدراتها نحو منع تمتّع الكرد في سوريا بأية مكتسبات، والعمل على تدمير واحتلال المنطقة، و المكاشفة صراحة عن نيّتها في احتلال كامل شمال وشمال شرق سوريا، وبدأت في التضييق على الحركة السياسية الكردية في باكور، ونفّذت ضربات جوية على مواقع الكريلا لخلق المواجهة ودفع حزب العمال الكردستاني لمعاودة القتال، وقد نبّه الحزب لذلك، غير أنّ تركيا كانت مصرّة على الدفع نحو تدمير عملية السلام، فإثر ضربات جوية تركية على مواقع للكريلا في ولاية شرناخ في 2015 ذكرت وكالة (رويترز) حينها أنّ حزب العمال الكردستاني قد صرّح بأنّ الضربات الجوية التي تجري بالتزامن مع ضربات ضدّ مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا قد أفرغت عملية السلام من مضمونها، لكنه لم ينسحب منها رسميًا. في حين قال أردوغان في مؤتمر صحفي في أنقرة قبل مغادرته البلاد في زيارة رسمية إلى الصين: “من غير الممكن بالنسبة لنا أن نواصل عملية السلام مع من يهدّدون وحدتنا الوطنية وأواصر الأخوة بيننا (رويترز).

تدمير القضية الكردية طموح قديم – جديد:

التصريحات الأخيرة للرئيس التركي أردوغان حول إنهاء العمال الكردستاني تعبير عن طموحات قديمة وليست بجديدة، فالحكومات المتعاقبة على تركيا منذ الانقلاب العسكري 1980 (انقلاب كنعان افرين) أعلنت أنّها ستقضي على العمال الكردستاني وأنّها ستنهي القضية الكردية! غير أنّ كلّ تلك الحكومات قد رحلت وبقي الكريلا وبقي حزب العمال الكردستاني وبقيت القضية الكردية، وفي ظلّ حكومة “العدالة والتنمية” ومنذ 2015 شنّت تركيا عشرات الحملات العسكرية ضد الكريلا داخل وخارج تركيا، بحيث أنّها وبحسب التحضيرات ونوعية الأسلحة وحجم القوات المشاركة في هذه الحملات كانت كافية لمواجهة جيوش دول في المنطقة، وكانت تصرّح مع كلّ حملة عسكرية بأنّها المعركة الأخيرة مع الحزب، و بأنّه سيتم القضاء عليه نهائيًا، ومع تكبّد الجيش التركي خسائر أمام الكريلا الكردستانية تلجأ تركيا إلى تصريحات جديدة عن حملة جديدة، تكون الأخيرة للقضاء على العمال الكردستاني، والتصريحات الأخيرة لأردوغان والتأكيد على أنّه سينهي مسألة الحدود مع العراق وبناء الحزام الأمني في باشور كردستان خلال صيف 2024م، إلى جانب المضي في استكمال ما يسمّيه أردوغان بالمنطقة الآمنة في روجافا (شمال وشمال شرق سوريا ) مهدّدا ومتوعّدا كلّ مَن يرفض أستراتيجيته. والذي جاء في كلمة لأردوغان في 4-3-2024 أثناء اجتماعه مع أعضاء حكومته وبغضّ النظر عن أنّ هذه التهديدات والتصريحات قديمة –جديدة وقد ألَفتها الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، كما ألفها حزب العمال الكردستاني، وهم ليسوا بغافلين عن السياسة التركية ويتوقّعون دائما قيام تركيا بشنّ الهجمات والسعي لاحتلال المنطقة، غير أنّها تحمل عدّة مؤشّرات؛ داخلية وإقليمية ودولية.

المؤشّرات الداخلية:

– وجود ضغط على حكومة “العدالة والتنمية” التي سعت إلى الإخفاء والتغطية على ما لحقت بالقوات التركية من خسائر كبيرة في باشور كردستان على يد الكريلا، وفي ظروف وأحوال جوية قاسية جدًا، بعد أن كان يصرّح قبل ذلك بأنّه قضى على الكريلا بشكل شبه تام(1) فقد ذكرت “الشرق الأوسط” نقلا عن وزارة الدفاع التركية في 23-12-2023 مقتل 12 جنديا تركيا في يومين خلال هجومين منفصلين على قاعدتين تركيتين في باشور كردستان، في خاكورك وزاب، في حين أنّ إعلام الكريلا ذكر أضعاف هذا العدد، وفي 12-1-2024 ذكر موقع (العرب ) نقلا عن وزارة الدفاع التركية مقتل تسعة جنود أتراك وإصابة عدد آخر في هجوم على قاعدة عسكرية تركية في شمال العراق ( باشور كردستان)، في حين ذكرت مواقع للكريلا أنّ الأعداد أكبر بكثير، لذلك فتصريحات أردوغان حول الصيف ربّما نابعة من انتهاء الشتاء وذوبان الثلوج، حيث غالبا ما يقوم الجيش التركي بالعمليات العسكرية في هذا الفصل؛ أي أنّ أردوغان يتوعّد بردّ الاعتبار للجيش والانتقام عندما ينتهي الشتاء، علمًا أنّ العمليات التركية لم تتوقّف أصلًا منذ 2015م.

– التهرّب من الدعوات لحلّ القضية الكردية، والضغط على الحركة الكردية السياسية في باكور كردستان مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في 31-3-2024 والتي يعتبرها أردوغان مصيرية لجهة دخول تركيا إلى القرن التركي أو (بتعبير أدقّ) دخول تركيا إلى السلطة الأردوغانية، وتكريس حكمه الذي يجده ناقصا من دون المدن الكبرى (إسطنبول وأنقرة وإزمير)، فالأصوات الكردية مهمة جدًّا في هذه المدن، ويسعى أردوغان للحصول عليها من خلال التهديد والترهيب ودفع الحركة السياسية الكردية لدعمه.

– كسب أصوات القوميين الأتراك، من خلال إظهار حزمه في محاربة الشعب الكردي وحركته السياسية، والإصرار على هزيمة حزب العمال الكردستاني وضرب التجربة الديمقراطية في شمال شرق سوريا (روجافا).

المؤشّرات الإقليمية:

– يبدو أنّ تأكيد أردوغان على النجاح في حملته العسكرية القادمة ضد الكريلا نابع من التعويل على ما حقّقه من تفاهمات مع بغداد وأربيل حول محاربة حزب العمال الكردستاني، فزيارة وزير الدفاع التركي يشار غولر إلى بغداد في 24-2-2024 بعد تكبّد الجيش التركي خسائر كبيرة على يد قوات الكريلا لم تكن إلّا دليلًا على العجز التركي عن حسم الحرب في جبال كردستان، والحاجة إلى تعاون بغداد وأربيل معها في ذلك من خلال اتفاقية أمنية، كانت تركيا قد مهّدت لها إثر زيارة قام بها وزير الدفاع العراقي في أكتوبر 2023 إلى أنقرة وبحث خلالها مع نظيره التركي التعاون بين البلدين في مكافحة الإرهاب وتعزيز أمن الحدود، فقد شعرت تركيا أنّ الفرصة مواتية لفرض اتفاقية أمنية على بغداد بعد أن فرضتها إيران قبلها لإبعاد الأحزاب الكردية الإيرانية عن الحدود، ويبدو أنّ المقابل التركي سيكون في الجوانب الاقتصادية وزيادة حصّة العراق من مياه دجلة، إلى جانب الوعود التجارية (طريق التنمية )، وقد كانت هناك زيارة للمسؤولين الأمنيين الأتراك ووزير الدفاع إلى أربيل أيضا والاجتماع مع قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني؛ حيث وبعد تلك الزيارات أبدت تركيا ارتياحها من تفهّم الديمقراطي الكردستاني وتعاونها معهم ضد حزب العمال الكردستاني، في الوقت الذي أبدت انزعاجها من الاتحاد الوطني الكردستاني وحتى تهديدها لتعامله مع العمال الكردستاني، والذي صرّح لأجل ذلك رئيس الحزب بافل طالباني بأنّهم لا يعتبرون العمال الكردستاني عدوّا أو خطرًا عليهم ولهم علاقات مع الحزب، ولكن يبدو أنّ بغداد ونتيجة للنفوذ الإيراني الكبير عليها لا يبدو أنّها ستمضي مع الطلبات التركية كما تشتهي تركيا، ولن تتورّط في المشاركة المباشرة مع تركيا ضد العمال الكردستاني، في الوقت الذي يبدو فيه موقف أربيل أكثر مطابقة مع أنقرة، بدليل أنّه لم يصدر عن أربيل أي توضيح أو بيان يناقض التصريحات التركية حول استعداد وقبول الديمقراطي الكردستاني للعمل جنبًا إلى جنب مع تركيا؛ الأمين العام السابق لقوات البيشمركة جبّار ياور لم يخفِ الرغبة التركية في إشعال حرب كردية – كردية ، حيث بيّن أنّ أنقرة تنوي استخدام البيشمركة في حربها ضدّ حزب العمال الكردستاني لتجنّب وقوع خسائر كبيرة في صفوف قوّاتّها، وحذّر من أنّ المسعى التركي ينطوي على خطر إعادة إشعال الصراع بين الأشقّاء الكرد.

– تنظر تركيا إلى الحرب الدائرة بين اسرائيل وحركة حماس الفلسطينية من منظور مدى قدرتها على التشبّه بإسرائيل في تجاوز المواقف الدولية، وإمكانية تطبيق سيناريو غزة على الشعب الكردي وحركته التحرّرية، لذلك يتمادى أردوغان في انتقاد ومهاجمة إسرائيل لفظيًّا، ويدعو إلى محاكمتها، ومن خلال ردود الفعل تجاه تصريحاته ودعمه العلني لحماس يُستشفّ السيناريو الممكن تطبيقه ضدّ الكرد وتجربتهم الديمقراطية في روجافا وعلى قوات الكريلا في جبال كردستان، والقصف العنيف الذي بدأه مع بداية العام (2024 ) ضد المنشآت الحيوية وقوى الامن والمدنيين في شمال وشرق سوريا ما هو إلّا جزء من استشفاف أردوغان للسياسات الممكنة وطبيعة المواقف وردود الفعل الدولية.

– تستشعر دولة “العدالة والتنمية” أنّ الشرق الأوسط المتّجه نحو التغيير يحمل في طياته نشوء كيانات فدرالية أو دولة كردية قد لا تقف عند حد باشور كردستان وروجافا، وإنّما قد تشمل باكور وروجهلات كردستان أيضا، وأنّ أكثر مَن يستطيع أن يكون فاعلا وعاملا للتغيير هو حركة حرية كردستان والتجربة الديمقراطية في شمال شرق سوريا، وتخشى من تطوّر العلاقات الغربية مع الكرد في روجافا من الشراكة في محاربة داعش إلى شراكة استراتيجية، وإمكانية تغيير مواقفها من حزب العمال الكردستاني وإخراجه من قائمة الإرهاب، ما يعني ضربة جدية للذهنية الإنكارية لدى تركيا، وصعود مسألة الحلّ للقضية الكردية، وإطلاق سراح السيد عبد الله أوجلان، ولذلك تعمل تركيا بكل جدية على تدمير روجافا وإعاقة تبلور المشروع الديمقراطي فيها إلى وضع أشبه ببباشور كردستان.

المؤشّرات الدولية:

– تركيا وبعد أن استخدمت معظم أوراقها في الضغط على الغرب، واستثمارها في الصراع الروسي الأمريكي، تستشعر أنها قد فقدت أهميتها الجيوستراتيجية بالنسبة للغرب، وخاصة بعد القبول الرسمي بفنلدا والسويد في حلف الناتو، والتي جاءت بعد مقايضات وعمليات ابتزاز اقتصادية وعسكرية، ومنها مسالة تسليمها طائرات f16 ورفع العقوبات عنها، وقد نجحت في ذلك، غير أنّها فشلت في تغيير الموقف الأمريكي تجاه قوات سوريا الديمقراطية ووقف الدعم لها ومسالة الانسحاب الأمريكي من المنطقة، لذلك تضغط تركيا – من خلال التهديدات الأخيرة- على أمريكا وتطرح مشروعها التوسّعي وما سيحمله من توتّرات إن لم تلبِّ المطالب التركية، في الوقت الذي تدرك فيه تركيا أنّها تلعب في الوقت المستقطع من ازدواجية علاقاتها الانتهازية بين روسيا والغرب، وما قد يجلبه ذلك لها من انعكاسات بعد أن بدأت في التودّد لأمريكا، هذا التودّد الذي لن يكون إلا على حساب علاقاتها مع روسيا، ومنها صفقة s400 وتسهيل الالتفاف الروسي على العقوبات الغربية والاستثمارات التجارية، ونفوذها في شمال سوريا، لذلك ومن خلال خلق هذه التوتّرات تسعى تركيا إلى لعب المزيد أو كسب المزيد من الوقت في اللعب على الحبلين مع روسيا وأمريكا، وجذب الانتباه إليها بعد أن بدأت تشعر بتهميشها في الكثير من القضايا في المنطقة، وفقدانها لهيبتها أمام الدول الإقليمية.

– تركيا وبعد أن كانت أكثر دول الناتو افتعالًا للمشاكل حتى مع الناتو نفسه، وساهمت بشكل كبير في إعاقة المشروع الأمريكي في المنطقة، ودعمت الفصائل الإرهابية وخصوصًا داعش، في الوقت الذي كان من المفروض عليها محاربته، كونها عضوًا في الناتو والتحالف الدولي ضدّ داعش، إلى جانب خلق التوتّرات والمشاكل مع حلفائها (اليونان وإسرائيل) والدخول في صفقات ومقايضات مع روسيا، وممارسة الانتهازية في التقرّب من تطوّرات المنطقة والحرب الأوكرانية – الروسية، مُسخِّرة كل ذلك لخدمة أجنداتها، إلى جانب علاقاتها المشبوهة مع إيران وحركة حماس الفلسطينية المصنّفة في قوائم الإرهاب، بدأت تسوّق لنفسها كشريك وحليف أمريكي لا يمكن الاستغناء عنه في ترتيبات المنطقة ومحاربة داعش، وشريك موثوق به وقادر على لعب دور أكبر ضمن المشروع الأمريكي، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية التركية في 2023 وتثبيت حكم “العدالة والتنمية” والتي يبدو أنّه قد تحقّق من خلال تنازلات تركية للغرب، ولكن معضلتها تكمن في القضية الكردية التي لا تستطيع تركيا الاستدارة فيها في ظل حكومة “العدالة والتنمية” نتيجة للكمّ الهائل من الشحن القومي والعنصري تجاه الكرد في ظل هذه الحكومة، وبنائها لقاعدة داعميها من خلال سياسة الإبادة ضد الكرد، وأية استدارة قد تعني الكثير لمستقبل أردوغان الشخصي وحزبه في تركيا، خاصة من قبل القوميين الأتراك، الداعمين الرئيسيين له في سياسته القمعية ضد الكرد.

النتيجة :

لعبت تركيا دورًا وظيفيًّا للولايات المتحدة الامريكية طوال سنوات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، كعامل توازن إقليمي وقوّة ردع للقوى المهدّدة للمصالح الامريكية، وعامل دعم لإسرائيل كدولة محاصَرة من المحيط العربي، وهو السبب الرئيسي في دخولها إلى الناتو، وكانت القضية الكردية دائما الهاجس الرئيسي للدولة التركية التي طالما خشيت من تحوّلها إلى سبب أساسي لتفتيت تركيا، غير أنّها وبدلًا من حلّ القضية الكردية بشكل ديمقراطي وسلمي، فقد اختارت الحلّ العسكري والأمني في التخلّص منها، وهو ما تسبّب بدخول تركيا في الأزمات المتتالية، سواء الاقتصادية أو السياسية طوال تاريخها منذ التأسيس وحتى الآن، ونتيجة هذه السياسة كانت إعادة تدوير العنف والإبادات، من دون الوصول إلى النتيجة التي كانت تتوخّاها، وهي القضاء على القضية الكردية، في الوقت الذي كان يدعمه في ذلك حلف الناتو وأمريكا؛ كون تركيا الحارس للحدود الشرقية للناتو؛ لذلك وفي الظروف الحالية، وفي ظلّ فقدان تركيا للكثير من ثقلها الاستراتيجي بالنسبة للناتو وأمريكا، وخاصة بعد دخول السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، وفقدان تركيا لمصداقيتها في الحلف بعد ما مارسته من سياسات انتهازية تجاه الحلف، وممارسة الابتزاز وازدواجية المواقف مع روسيا وأمريكا، فقد باتت تفقد ذلك الدعم، وفي الوقت نفسه لم تعد القضية الكردية شأنا داخليا بين الدول المتقاسمة لكردستان، وبات الكرد رقما مهمّا في المعادلات الإقليمية والدولية، وليس من السهل على تركيا تصوير القضية الكردية كما كانت تصوّرها للعالم في الثمانينات والتسعينيات، على أنّها مسألة أمن الدولة، أو مسألة إرهاب، وإنّما باتت قضية شعب يتوجّب حلّها.

– دخول الحزب الديمقراطي الكردستاني في المشاركة المباشرة عسكريا ضد حزب العمال الكردستاني سيعني دخول باشور كردستان إلى حرب كردية – كردية لن تكون محصورة في الجبال أو مقتصرة على طرفين، وإنّما ستمتدّ إلى داخل الإقليم، وستجرّ قوى كردستانية أخرى إلى الصراع، وقد تكون سببًا وعاملًا لتدخّل المركز (بغداد) والفصائل الإيرانية أيضا إلى الصراع؛ وهو ما يشكّل تهديدا حقيقيًّا للتجربة الفدرالية في العراق أو مكاسب الشعب الكردي، إلى جانب فقدان الديمقراطي الكردستاني لمصداقيته القومية بالنسبة للشعب الكردي، وقد يكون سببًا لتمرّد الشعب الكردي على سلطة الديمقراطي الكردستاني.

– قيام تركيا -كما تدّعي أو كما يتّضح من تصريحاتها- بحرب كبيرة وشاملة على الكريلا سيدفع إلى دخول المنطقة كلّها في فوضى حرب عنيفة ستشمل دولًا عديدة، ولن تنحصر في منطقة معيّنة، ما يعني خطر نشوب صراع ليس من السهل إنهاؤه حتى من قبل بدأه، ممّا سيؤثّر على مصالح الدول الكبرى أيضا في المنطقة، ولا أعتقد أن تركيا مستعدّة لتحمّل هذه الفوضى، إلى جانب انعكاسها على الداخل التركي، وصعود القضية الكردية بشكل أقوى فيها.

– عودة داعش بقوة لتدمير كلّ ما تمّ إنجازه من قبل قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، وهو ما قد يعيد الإرهاب وخطره في المنطقة والعالم إلى الواجهة، ما يعني تحمّل لتركيا للمسؤولية الكاملة أمام المجتمع الدولي.

– نتائج الحملة التركية -إن قامت بها- سواء تمكّنت من تحقيق أهدافها أم لم تتمكّن، ستدفع بالقضية الكردية ومسألة الشعب الكردي ومصيره إلى واجهة الاهتمام العالمي وضرورة حلها.

المصدر: مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية

شارك هذه المقالة على المنصات التالية