تعمل السلطات المركزية في سورية، كما عملت في الماضي، إلى إتباع سياسة إهمال الجزيرة، و استغلال ثرواتها، و تحويله إلى مرتع لموظفيها و وكلائها، وتهميش نخبها، و تعتمد في ذلك بشكل كبير على تسعير الخلافات القومية و العشائرية و الدينية و الطبقية، وذلك عبر استغلالها لتعددية الانتماءات القومية و الدينية في هذه المنطقة.
نشر عالم الآثار الفرنسي جان ماري دوران، في عام 1997 ، الترجمة الفرنسية للوحات أثرية سومرية متعلقة بمراسلات مملكة ماري، و يوجد في هذه اللوحات الكثير من المعلومات التي تتعلق بالممالك التي سادت كردستان في الألف الثاني قبل الميلاد، و من ما يجلب الانتباه في هذه الوثائق الأثرية هو أننا نجد أكثر من عشرين لوحة أثرية تخص العلاقات بين إمارة ماري و إمارة (كردا)، و اسم هذه الإمارة الأخيرة لا يترك مجالاً للشك في أنها كانت كردية. إذ كانت إمارة كردا من أقوى الإمارات التي قامت في الجزيرة إلى الشمال من إمارة ماري، و كانت تمتد حتى شمال شرقي الفرات، إلى درجة أن أمير ماري كان يخشى حمورابي مملكة كوردا، و كان يحتاط منه، رغم العلاقات الطيبة التي كانت تجمعهما.
وتعتبر هذه اللوحات المتعلقة بأمارة كوردا أقدم النصوص التاريخية المعروفة حتى الآن التي تذكر الكرد بشكل واضح و صريح، و كانت هذه الإمارة التي كانت تتخذ من جبل سنجار مقراً قيادياً، و كانت تسيطر على قسم كبير من غرب كردستان المنضمة إلى حدود الدولة السورية. و لا يخفى على المتخصص مدى العلاقات المتطورة، في تلك الحقبة الزمنية بين مملكة آلالاخ في جبل الكرد و إمارة ماري (حول علاقات إمارة آلالاخ مع إمارة ماري، انظر بحث العالم الأثري العربي السوري عمار عبد الرحمن).
قال أحدهم عندما سُئل عن عمره: ولدتُ عندما خُلقت الدنيا، فرد الثاني بأن حفيده الأصغر وقع شهيداً في ذلك العام!!!
فالشعب الكردي هو من أعرق شعوب المنطقة، و أستطاع أن يتأقلم مع حركة الطور التي مرت بها المنطقة مع المحافظة على تماسكه الثقافي و القومي ، ويشكل حالياً رابع أكبر تجمع قومي في منطقة الشرق الأوسط.
تؤكد كل الوثائق الفرنسية بأن مناطق الجزيرة العليا قبل خضوعها للانتداب الفرنسي، كانت معمورة بشكل أساسي بالقرى الكردية، و كانت المناطق الجنوبية من الجزيرة عبارة عن مراع تتنقل فيها القبائل الكردية و البدوية.
و تؤكد كل الوثائق التي اطلعنا عليها بأنه لولا التواجد الكثيف للقوى الكردية بين جغجغ و دجلة، و مواقفها المعادية لتركية و الانكليز، لما كان بإمكان السلطات الفرنسية من ضم هذه المنطقة إلى حدود الدولة السورية. و بدون المساهمة العسكرية للكرد المللين، لما استطاعت القوات الفرنسية من ضم حوض الفرات إلى دولة حلب. وبدون مساهمة الكرد البرازيين لما دخلت منطقة جرابلس و عين العرب في حدود دولة حلب. و كان قائمقام نصيبين كردياً، و قائمقام رأس العين كردياً، و كان حاكم حلب أثناء الحرب العالمية الأولى كردياً. و أثناء تخيير السكان بين تركية و سورية في عام 1926، اختار الكرد، على العموم، الجنسية السورية، بخلاف الكثير من العرب، و خاصة الحلبيين منهم، الذين اختاروا بكثافة الجنسية التركية.
وفي الحقيقة، كانت السلطات الانكليزية في العراق و التركية و الفرنسية تتنافس على اجتذاب أكبر عدد ممكن من السكان، وكل سلطة كانت تغري العشائر بقبول الاستيطان في منطقة نفوذها و الخضوع لسلطاتها. فلم يكن يتجاوز عدد سكان الأقاليم الخاضعة للانتداب الفرنسي، في البداية، المليون و ربع المليون من النسمة، و كانت ترغب باستقطاب أكبر قدر ممكن من الطاقة البشرية.
و لكن فيما بعد، وخاصة بعد عام 1930 و بعد الانتهاء من ترسيم الحدود مع تركية و العراق، تبيّن الوثائق بأن السلطات الفرنسية كانت تفضل توطين العرب البدو و استقدام المسيحيين (أكراداً و غير أكراد) إلى الجزيرة، و كانت ترفض توطين العشائر الكردية المسلمة فيها. و خير مثال هو قرار السلطات الفرنسية بمنع التحاق بعض العائلات الكردية من الكيكية بعشيرتهم في منطقة الدرباسية، رغم التزام رئيس عشيرتهم بتوطينهم في أراضي العشيرة.
يبين التقرير- موضوع هذه الحلقات- بأن من كتبوه قد تنكروا لما كانوا قد سبق و أن أعلنوه من انتماءات، و تراجعوا عن ما كانوا قد اتخذوه من مواقف، إذ كانوا يعلنون قبل انتماءهم إلى القومية الكردية (2)، و يعملون على منح الجزيرة حكماً ذاتياً أسوة ببقية المناطق الخاضعة للانتداب الفرنسي، و لكن ما أن لاح في الأفق بوادر ضعف السلطات الفرنسية في الحرب حتى بدءوا يسعون إلى الحصول على المكاسب على حساب بقية سكان الجزيرة.
كل سكان الجزيرة، بكردهم و عربهم و أرمنهم و شركسهم، بايزيديهم و إسلامهم و مسيحييهم شركاء ساهموا في اعمار هذه الديار التي تم ضمها إلى سلطات دمشق برضائهم أو بدونه، وهم الآن جزء من الدولة السورية، و يمدونها بالقسم الأكبر من الثروات، و يؤدون واجباتهم بجدارة تجاه هذه الدولة، لم يكن من المبرر إلحاق الغبن بهم و بمنطقتهم، و ليس من المبرر ممارسة القمع و الاضطهاد بحقهم و تجويعهم، و إقصاء نخبهم من مراكز القرار.

في هذه الحلقة نترجم لكم المذكرة الموقعة من قبل قداسة المطران حبى، و السيد الياس مرشو و السيد عبد الأحد قريو، و التي تم تقديمها إلى فخامة رئيس الدولة بهيج بك الخطيب في الثالث عشر من شهر آذار عام 1940.
****
الحركة الكردية في الجزيرة
لا يمكن حالياً معرفة مدى هذه الحركة و لا الحكم على الأهداف المبتغاة منها، عند إثارة المسألة العرقية (القومية- المترجم) الكردية، فهذه المسألة على درجة من الأهمية تستحق كل الانتباه.
ما يمكن تأكيده، هو أن الحركة الكردية في الجزيرة تخدم الأكراد بشكل غير مباشر، و ستسمح، بعد الحرب، بأن يتم الاعتماد عليها لتقديم مطالب إقليمية على هذه المنطقة التي أصبحت مخزن تموين و غنية بالبترول، هذه المادة (البترول- المترجم) ستصبح موضوع أطماع الأتراك.
تماسكت الحركة الكردية، منذ أحداث عام 1937، و لاسيما و أن المسيحيين دعموها و ذلك بمساندتهم لمجموعة من زعماء الكرد اللاجئين ( و ليس الأكراد المحليين الموالين للحكومة).
كان المسيحيون، بدون تقدير نتائج تصرفهم، يأملون تشكيل أغلبية في الجزيرة، أغلبية قادرة على مواجهة الحكومة الوطنية في دمشق التي كانت مشاعرها غير ايجابية كثيراً تجاههم.
كانوا يأملون، من جهة، تأسيس حركة هامة قابلة لأن توصلهم إلى استقلال ذاتي محلي و مالي، و كان يتوجب أن تصبح وحدة مستقلة، خاضعة لحماية فرنسا و منفصلة عن سورية.
استفاد زعماء الكرد، الذين جاءت أغلبيتهم من تركية، من هذا الوضع لكي يقوموا بنشاط دعائي لدى أبناء دينهم في الجزيرة، دعاية استهدفت جعل هذه المنطقة مركزاً كردياً مرتبطاً بكردستان، و من المحتمل إعلانها كدولة مستقلة.
في الوقت الذي أصبحت هذه الدعاية منظمة بشكل قوي، أصبحت مهددة، و تتم قيادتها من قبل اللجنة الكردية المسماة خويبون التي ينتمي إليها عدد من موظفي الجزيرة، و بشكل أساسي مفتش التعليم ممدوح سليم، الذي تنعقد الاجتماعات في منزله كما في مكتبه، و يحصلون، بفضل تدخل هذه اللجنة، على الجنسية السورية بفضل قانون العفو الصادر من قبل الحكومة السورية لصالح سكان الجزيرة، و ينتج عن ذلك بأن هذه العناصر قد بدأت بإشغال مساحات واسعة من الأراضي التي طلبوا حيازتها، الأمر الذي هو ممنوع على الأجانب. تجنيس هؤلاء الأتراك، بالفعل، هو باطل، لأنهم معتبرون، من وجهة النظر الدولية، كمواطنين أتراك.
فيما إذا استمرت هذه الحالة، سيزداد العنصر الكردي عددياً بنسب مقلقة، و سيشغل القسم الأكبر من الأراضي، و ينتج عنه أيضاً بأن الحكومة التركية ستتدخل قريباً في مسألة الجزيرة لحماية العناصر التركية، أو من أجل أي سبب آخر، و مأساة اسكندرون هو أقرب شاهد على ذلك.
(البقية في العدد القادم)

****
ملاحظات من المترجم:
(1)- جان ماري دوران، وثائق قصر ماري، مطبعة سيرف، باريس، عام 1997.
من المجلد الأول، راجع الصفحات: 60، 393، 414، 415، 416، 423، 427، 433، 503، 515، 517، 604، 605، 617، 622.
من المجلد الثاني، راجع الصفحات: 67، 156، 157، 285، على سبيل المثال لا الحصر.
(2)– لدينا الكثير من الوثائق التي تؤيد على ذلك، و يمكن للقارئ مراجعة الرابط التالي أيضاً: http://www.rojava.net/X_ISSA_23.11.2009.htm
و أيضاً يمكن الاطلاع على المادة المنشورة على الرابط:
http://www.rojava.net/21.10.2006%20Arabic.%20mozakarat%20akrad%20suriya.htm

يتبع

شارك هذه المقالة على المنصات التالية