د. محمود عباس
وفي تصريحه الأخير، بدا توماس باراك، السفير الأمريكي في أنقرة والمبعوث الخاص إلى سوريا، أكثر اتزانًا ووضوحًا مما كان عليه في إطلالته الأولى، التي شابها الغموض والتناقض، هذه المرة، أقرّ بشكل غير مباشر بأن اتفاقية سايكس–بيكو لم تكن فقط مشروعًا استعماريًا لتقاسم النفوذ، بل كانت أيضًا فعل طمس متعمّد للهويات التاريخية لشعوب المنطقة، وتحيّزًا فجًّا لصالح قوى ناشئة كالدولة التركية التي نشأت على أنقاض شعوب بأكملها، لم يُخفِ باراك إدراكه بأن الجمهورية التركية الحديثة تأسست على قاعدة الإقصاء القومي، فمحَت من خارطتها كل ما لا يتماهى مع الهوية الطورانية، بدءًا من الكورد، مرورًا بالأرمن، وصولًا إلى السريان واليونانيين.
ومع ذلك، وبما يشبه النمط الأمريكي الكلاسيكي في التنقّل بين الألغام الجيوسياسية، حافظ توماس باراك على “أدب المجاملة” تجاه أنقرة، فتجنّب الإشارة الصريحة إلى الكورد، رغم أنهم الطرف الأكثر تضررًا من تداعيات اتفاقية سايكس–بيكو، قديمها وحديثها، إنه السلوك السياسي الأمريكي المألوف، حيث تُقايَض مظلومية الكورد بتحالفات ظرفية ومصالح آنية، كما حدث في العراق حين حوّل بول بريمر القضية الكوردية إلى بند هامشي في مفاوضات ما بعد سقوط النظام، إرضاءً للطبقة السياسية العربية، ومراعاةً لمراكز القرار الإقليمي.
وقد كانت تلك المقايضة إحدى البوابات التي فُتح من خلالها باب الفساد والانهيار، وأدت لاحقًا إلى خضوع العراق لنفوذ طهران، وما يجري اليوم في سوريا يحمل ملامح مشابهة، مع خطر انزلاقها إلى تبعية تركية مقنّعة، وربما كان هذا الإدراك المسبق، بعمق الأخطاء السابقة، هو ما يدفع الإدارة الأمريكية، عبر ممثلها توماس باراك، إلى تعديل مسارها، والسعي نحو مقاربة جديدة أكثر اتزانًا، تُراعي حقيقة التوازنات وتُعطي وزناً أكبر للقضية الكوردية كعنصر حاسم في مستقبل سوريا والمنطقة.
لذلك ورغم هذا التجاهل الظاهري، فإن ما بين السطور يكشف أن الخريطة الجديدة تُرسم بأقلام مختلفة، فالإدارة الذاتية لم تعد هامشًا، بل مركز ثقة، وقوات قسد لم تعد مجرد قوة ميدانية، بل طرفًا سياسيًا مفاوضًا، يتقدّم بخطى ثابتة في مشهد إعادة التشكيل، حيث يتراجع المتطرفون إلى الظلال، وتنهار مشاريع القهر القومي تحت ثقل الحقائق الديمغرافية والسياسية.
ففي هذه المرحلة المفصلية من مستقبل سوريا، حيث بدأت ملامح ما يُسمّى بـ “الحكومة السورية الانتقالية” تتكشّف على حقيقتها، ينكشف التناقض الفاضح بين خطابها المصدَّر إلى الخارج، المبطّن بشعارات الديمقراطية والسلام، وواقعها الداخلي الذي تحكمه تيارات الإسلام السياسي المتطرف، أي سلطة مزدوجة اللسان، تقدم نفسها للعالم كبديل مدني، بينما تنمو في عمقها خلايا فكرية لا تختلف كثيرًا عن منطق التكفير والاستبعاد.
وعلى هذه الأرضية المتصدعة، يصبح من الضروري أن يرتقي الحراك الكوردي، ومعه اللجان المنبثقة عن كونفرانس قامشلو، إلى مستوى الحدث، وأن يتحرك بما يليق بقضية نضالية عمرها قرن، لا كصدى لأحزاب تبحث عن فتات الحقوق، بل كطرف وازن، أصيل، يتفاوض بندّية على شكل الدولة السورية المقبلة، لا على هامشها.
إن أي حوار لا يكون على مستوى مؤسسات الدولة الانتقالية ذاتها، ومع رأس القرار السياسي والإداري فيها، كأحمد الشرع أو من في مرتبته، هو ببساطة تقزيم للموقع الكوردي، ومصادرة مسبقة للمطالب القومية، فالحوار مع كيانات غير مكتملة السيادة، أو مع أطراف خاضعة لإملاءات خارجية أو داخلية، لا يعدو كونه دورانًا في الفراغ، لا يجب أن يتحول الحراك الكوردي إلى شاهد زور في مشهد سياسي يُراد له أن يُستكمل بدون الكورد أو على حسابهم.
اللحظة اليوم ليست للحوار الرمزي، بل لصياغة عقد وطني جديد، والكورد ليسوا ضيوفًا في هذا العقد، بل شركاء أصليون في كتابته، من قامشلو حتى قلب القرار السياسي، ومن جراح التاريخ حتى مشروع الغد.
المكان أيضًا مهم، لا داعي للهرولة نحو دمشق، فالرمزية والثقل السياسي اليوم في قامشلو، عاصمة القرار الكوردي والإداري في غرب كوردستان، ومركز الإدارة الذاتية التي باتت أمرًا واقعًا في السياسة الإقليمية والدولية، ومن هنا، على اللجان أن تحاور من موقع القوة، مستندة إلى شرعية شعبية، واعتراف فعلي من التحالف الدولي، وخاصة من الولايات المتحدة وفرنسا.
الزمن الآن في صالح الكورد، وليس في صالح الحكومة الانتقالية، فهذه الحكومة لم تثبت بعد أية أهلية سياسية أو شرعية وطنية، وهي في جوهرها، حتى اللحظة، ليست أكثر من كيان هش، قائم على تحالفات مشبوهة، وبعضها مع أطياف من التنظيمات المتطرفة وفلول داعش، التي أُعيد تدويرها لأسباب استخباراتية إقليمية، الدول الكبرى تدرك هذا جيدًا، وهي لن تسمح بقيام نظام متطرف، يحمل في عقيدته إزالة إسرائيل، ونفي وجود الآخر، ويقع على حدود إسرائيل نفسها.
ما يجري اليوم من تخفيف الحصار، ومحاولات تعويم بعض الأطراف، ليس مكافأة لهذه الحكومة الوليدة، بل جزء من مشروع دولي لإعادة إعمار سوريا على أسس جديدة، تُبقي على التعدد، وتحمي أمن المنطقة، وترتبط بشروط واضحة، فيدرالية، لامركزية، وضمانات لأقليات قومية ودينية، على رأسها الشعب الكوردي.
إننا أمام منعطف حاسم، وعلى الحراك الكوردي أن يتمسك بحقوقه القومية كاملة، دون نقصان، وألا يقبل بأن يكون ملحقًا في مشهد جديد تُعاد صياغته، اللحظة ليست لحظة تراجع، بل ترسيخ للمكاسب، وما لم يُنتزع اليوم، قد لا يُمنح غدًا.
فلعبة الصمت والتأجيل التي مارستها واشنطن لم يكن عبثًا، بل كانت فنًّا في إدارة الوقت والخصوم، واليوم، حين تبدأ الأصوات الأمريكية بالكشف عمّا كان يُقال خلف الجدران، فإننا نقترب من لحظة الحقيقة، لحظة يُعاد فيها الاعتبار لقضية الشعب الكوردي، لا كملف إنساني، بل كلاعب أساسي في معادلة الاستقرار السوري، ولحظة تُنتزع فيها أغطية الخداع عن كل من ظنّ أن “الاحتلال الناعم” قد يُنتج يومًا دولة.
الولايات المتحدة الأمريكية
6/7/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=71798