الجمعة, مارس 29, 2024
آراء

حتى أنتِ يا ستوكهولم!

*جوان ديبو

في سنة 44 قبل الميلاد اغتيل الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر من قبل مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الروماني. ويسرد التاريخ بأن قيصر قد تلقى 26 طعنة من 26 خنجرا وسكينا يومذاك. كما يروي التاريخ بأن أقسى تلك الطعنات وأشدها إيلاما على قيصر كانت تلك التي باغتته من صديقه المقرب بروتس الذي كان يعتبره يوليوس بمثابة أخيه الصغير، ولذلك قال عبارته المؤلمة “حتى أنت يا بروتس” كناية عن الصدمة من الخيانة والغدر.

على هذا النحو تصرفت مؤخرا دولة السويد عندما سلمت تركيا اللاجئ الكردي محمود تات ضاربة عرض الحائط بكل تعهداتها الإنسانية والأخلاقية، وخانت بذلك “ديمقراطيتها” التي طالما ميّزت السويد والدول الأسكندنافية عن قريناتها الأوروبيات. الضحية محمود تات فرَّ من تركيا سنة 2015 متوجها إلى السويد طالبا فيها اللجوء بعد أن حُكم عليه في أنقرة بالسجن لمدة 6 سنوات و10 أشهر بتهمة الانتماء إلى حزب العمال الكردستاني.

محمود تات

لكن المجنيّ عليه لم يكن يتخيل بأنه قد يتحول في يوم من الأيام إلى جزء من صفقة دنيئة تفضي إلى رضوخ “الديمقراطية” للاستبداد واسترضاء السلطان العثماني المستبد من قبل “الديمقراطيين” في ستوكهولم ليُشرع السلطان رجب طيب أردوغان للسويد أبواب الناتو المرتعب من غضب الدب الروسي الهائج.

ولم يكن يدور في مخيلة المجني عليه أنه سيكون برهانا جديدا على قبح النظام الدولي وأكذوبة الديمقراطية ومهزلة حقوق الإنسان. هذه العناوين البراقة كانت وما زالت خاضعة للانتقائية والتسييس والمصالح. نعم قضت السويد “الديمقراطية” نهائيا على آمال الضحية تات في العثور على الأمان والاستقرار في الواحة المفترضة للديمقراطية وحقوق الإنسان بعد أن بلغ المجني عليه تلك الواحة بشق الأنفس.

ويبدو أن محمود تات هو القطرة الأولى في غيث خذلان “الديمقراطية” الأسكندنافية الأوروبية أمام عتاة المستبدين، وأن هناك رتلا طويلا من اللاجئين الكُرد، وربما التُرك المناوئين للسلطان العثماني، الذين ستقدمهم ستوكهولم وهلسنكي قرابين للسلطان أردوغان لنيل استحسانه وعضوية الناتو التي قد تقيهم شرور القيصر الروسي.

من نافلة القول إن ترحيل السويد للاجئ الكردي محمود تات وتسليمه إلى جلاديه في أنقرة يعتبر فضيحة من العيار الثقيل، ووصمة عار حديثة العهد تضاف إلى وصمات العار السابقة على جبين “الديمقراطية الليبرالية” الغربية. والسبب أن تسليم مطلوبين إلى دول سجلها حافل بانتهاكات حقوق الإنسان وليس فيها قضاء نزيه ومحاكمات عادلة، ويواجهون فيها حتما التعذيب والقمع وربما الموت البطيء، أمر مخالف للقوانين السويدية والأوروبية واتفاقية جنيف للاجئين لسنة 1951 وبروتوكولها 1967.

وتصرّف الحكومات على النقيض من ادعاءاتها والتزاماتها ليس له تعريف وتجسيد سوى النفاق الذي يغطي الفارق الهائل بين الادعاء النظري والتطبيق العملي.

لكن، في نفس الوقت، تُلقي هذه الفضيحة المدوية بظلالها الداكنة أولا: على هشاشة “الديمقراطية الليبرالية” واحتضارها وربما موتها والخلل البنيوي في أنساقها السياسية والاقتصادية والمؤسساتية، التي تبلورت وتراكمت على مدى عقود، كما يشير إلى ذلك العديد من المفكرين الغربيين.

وثانيا: إلى ظهور بوادر تنافر بين الفينة والأخرى بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد أن كان شائعا لردح من الزمان بأن المفهومين هما وجهان لعملة واحدة. هذا التنافر يشي بدوره إلى وجود أعراض مرضية حادة ومزمنة في جسم الديمقراطية الغربية وروحها وإلى خلل وتناقض في الأفكار والمبادئ الرئيسية المؤسسة للديمقراطية كمفهوم وتطبيق. وقد يكون كل هذا بمثابة تنبؤات لانتقالها الموضوعي من الديمقراطية الليبرالية إلى ما يمكن تسميته تجاوزا بالديمقراطية الشعبوية. علما أن الديمقراطية والشعبوية نقيضان في الجوهر، ولا يلتقيان إلا بإشعار وإيذان من النخب الحاكمة المخادعة.

وهذا ما تؤكده الباحثة الإيطالية ناديا أوربيناتي في كتابها “أنا الشعب، كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية” حيث تشير إلى أن “الديمقراطية الشعبوية” ستحل تدريجيا محل “الديمقراطية التقليدية” بعد إخفاق الأخيرة في تحقيق الوعود التي قطعتها، وتنامي نفوذ أوليغارشية جشعة هدفها الولوج إلى السلطة والبقاء فيها لأطول فترة ممكنة، حتى ولو كان ذلك على حساب تفريغ الديمقراطية وحقوق الإنسان وبقية القيم التي يدعون الالتزام بها من محتواها الحقيقي.

السويد التي تعتبر من أعرق الديمقراطيات في العالم تطأطئ رأسها دون استحياء لتركيا أردوغان التي تعتبر أحد رموز الاستبداد في العالم أجمع، لنيل رضا السلطان العثماني الجديد واستحسانه لكي يسمح للسويد بالدخول إلى الناتو والاحتماء به. نعم السويد وفنلندا توقعان مذكرة تنازل وتخاذل مع أنقرة للإذعان للشروط التركية ومن ضمنها تسليم اللاجئين المناضلين إلى أنقرة ورفع الحظر على بيع الأسلحة لتركيا التي توظفها لتنفيذ أجنداتها التوسعية والعدوانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واليونان وقبرص.

بالمقابل تطبطب تركيا أردوغان على رؤوس الحكام في ستوكهولم وهلسنكي، وتُربّت على أكتافهم وتُهدّئ من روعهم وتتعهد بأنها لم تعد تمانع في انضمام الحمامتين المفترضتين إلى سرب الأسود والذئاب، شريطة تنفيذ بقية مطالب السلطان.

بئس “الديمقراطيون” أنتم. سقطت عنكم حتى أوراق التوت التي كانت تخبّئ عوراتكم أيها المتاجرون بحقوق المظلومين وأيها المنافقون في أسواق النخاسة السياسية.

*كاتب سوري كردي

المصدر: العرب اللندنية