دجوار أحمد آغا
عامودا المدينة الأسطورية الشاهدة على عصور كثيرة مرت عبر برية ميردين نزولاً من جبال طور عابدين باتجاه البرية وصولاً إلى الموصل، هذه البرية التي كانت تُعرف تحت اسم “برية خلف آغا” المشهورة بقراها المتناثرة في أرجائها الشاسعة. عامودا وتلها الأثري “شرمولا” الذي ما زال شامخاً إلى جانب تل حبش وكري موزا “أوركيش” التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. هذه البلدة الصغيرة بحجمها والكبيرة بأهلها وتاريخها حيث كانت تتبع ولاية آمد (ديار بكر) خلال عهد الاحتلال العثماني وتعتمد على الزراعة والرعي مثل الكثير من مدن وبلدات الجزيرة. أنشأتها العشائر الكردية وبعد الحرب العالمية الأولى ودخول الفرنسيين إلى سوريا بدأت تنمو بشكل تدريجي وأصبحت مركزاً زراعيا وتجاريا.
من المشاهير الذين سكنوا عامودا الأديبة الإنجليزية “أغاثا كريستي” حين جاءت مع زوجها عالم الآثار مارك الذي ترأس البعثة الأثرية في تل “جاغر بازار” بريف عامودا الجنوبي.
عامودا حاضنة الفكر والثقافة
منذ بدايات تأسيسها، اشتهرت بمثقفيها الذين كانوا أصحاب مزاج نزق خاص بهم يصل بهم أحياناً حد الجنون. استقبلت الكثيرين من الكتاب والأدباء والشعراء الذين فروا من باكور كردستان من بطش العثمانيين، ولجؤوا إلى إخوتهم الكرد العاموديين المشهورين بكرم الضيافة، فما بالكم بالأخ الذي فرقت بينهم “سكة قطار” وأصبحت حدود مصطنعة تفصل القرى والبلدات والمدن عن توأمها. لعل أبرز من سكن عامودا في عصرنا الحديث الشاعر الكبير جكرخوين، بالإضافة إلى شعرائها (سليم بركات، ومحمد عفيف الحسيني، وصبري خلو سيتي، وصالح حيدو، وجميل داري، وشيخ القصيدة الكردية المعاصرة أحمد الحسيني عافاه الله). هذه النخبة المثقفة جعلت عامودا مركزاً للحراك الفكري والثقافي رغم صغرها.
مع انتشار دور السينما في المدن السورية، أُسِّست دار للسينما في عامودا وأصبحت متنفساً لروادها من المثقفين وغيرهم.
خلفية الأحداث وبدايتها
الثاني والعشرون من شباط عام 1958 شهد ولادة الجمهورية العربية المتحدة على إثر الوحدة بين مصر وسوريا، حيث وقعها الرئيسان جمال عبد الناصر، وشكري القوتلي، وأصبحت سوريا بموجب هذه الوحدة الإقليم الشمالي بينما مصر الإقليم الجنوبي لأنه لم يكن هناك ترابط بين الطرفين. خلال سنوات الوحدة وتحديداً في العام 1960 تم إطلاق حملة جمع تبرعات لصالح الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، التي كانت مشتعلة وتحتاج إلى الدعم والمساندة. وقررت السلطات وحسب صاحب سينما شهرزاد (عامودا) أحمد علي حسن الملقب “حسنات” استلامها عن طريق مدير ناحية عامودا الأسبق الرائد مصطفى شعبان بالقوة، وإقامة ثلاث حفلات متتالية لتلاميذ المدارس على أن يعود ريعها إلى الثورة الجزائرية.
الحريق يتلهم الأجساد الطرية
ليلة خريقة لن تُنسى إلى أبد الدهر، بقيت عالقة في ذاكرة الكرد في كل مكان، ليس فقط في عامودا، فقد انتشرت رائحة شواء أجساد أطفال الكرد الطرية في سائر أرجاء كردستان الأربعة. هذه الليلة الخريفية كانت من نصيب عامودا مدينة الألف حسرة وألف أمل. أجبر مدير الناحية ومعاونه بالإضافة إلى مدراء المدارس التلاميذ على الذهاب إلى السينما في حفلة ثالثة مساء الثالث عشر من تشرين الثاني عام 1960، السينما الوحيدة المبنية من الطين وذات طابقين ومسقوفة بالقش السريع الاشتعال ودون أي وسائل سلامة أو مخارج طوارئ. السينما التي تتسع 200 طفل تم حشر 500 طفل داخلها دون أن يكون معهم أي من المعلمين أو رجال الشرطة لتبدأ فصول من أبشع الجرائم التي تشهدها الإنسانية وتشتعل السينما ويلتهم الحريق الأجساد الطرية الغضّة مثل وحش مفترس ويرتقي 283 طفلاً شهيداً إلى السماوات أكبرهم الشهيد “محمد سعيد آغا الدقوري” الذي أنقذ اثني عشر طفلاً من الموت وانهار الجسر الحديدي فوقه ليرتقي برفقة أطفال عامودا شهيداً جميلاً.
تعامل السلطات مع الحريق
عوضاً عن فتح تحقيق فوري بخصوص المأساة ومعاقبة المتورطين فيه، بالإضافة إلى تقديم العزاء ومواساة العوائل في مصابهم الجلل، فقد لجأت السلطات إلى أسلوب التهديد والوعيد بحق الأهالي والمماطلة بشأن التحقيق واعتبار الأمر قضاء وقدراً! حسب المحامي حسن دريعي صاحب كتاب “عامودا تحترق”، فإن رئيس مباحث الحسكة وقتها المدعو “حكمت ميني” كان يوم الحادث يجوب بسيارته حول المدينة ويراقبها بدقة وعند وقوع الحادث عاد إلى مكتبه في الحسكة، وفي اليوم التالي للحادث جاء إلى عامودا مهددا الأهالي بالسحل قائلا إنه لا يريد السماع عن الحادث سوى “قضاء وقدر”. يتحمل المسؤولية وزير الداخلية حينها عبد الحميد السراج ورئيس المباحث في الحسكة حكمت ميني، ومدير ناحية عامودا مصطفى شعبان ورئيس بلدية عامودا مصطفى قدوره وطاقمه بالإضافة إلى مدير مدرسة الغزالي الابتدائية، ومدير مدرسة المتنبي الابتدائية، ومدير مدرسة عمار بن ياسر، هذه المدارس الثلاث التي أرسل مدراؤها الطلاب بالقوة والتهديد بالفلقة (الضرب على الأقدام) في حال عدم ذهاب التلاميذ إلى حفلات السينما.
المأساة وتداعياتها على عامودا
صراخ وصل عنان السماء، عويل الأمهات الثكلى، بكاء الرجال بدموع تحجرت في مآقي العيون، رائحة شواء لحم، أطفال يطرقون الجدران بحثاً عن طوق نجاة، وآخرون يتدافعون نحو الباب الذي خرجوا منه بصعوبة ليلاقوا حتفهم في البئر أمام الباب، وكأن القدر لهم بالمرصاد. 283 روحاً تغادر الأجساد الغضة الطرية وترتفع إلى السماوات لتشكو أمرها إلى الله. أمهات فقدن الإحساس بالألم لشدة الألم، تحجّرت الصرخات في الحناجر بعد أن بُحَّت الأصوات. يا إلهي إنها يوم القيامة ونارها التي لا تُطفأ. لم تتوقف المأساة عند حدود عامودا بل تجاوزتها إلى بقاع الله الواسعة.
لماذا عامودا؟
سؤال يتبادر إلى الذهن، لماذا عامودا تحديداً، ألم تكن هناك مدارس في دمشق وحلب وحمص وحماه واللاذقية وطرطوس المدن الكبرى في سوريا؟ ألم تكن هناك مدارس في القاهرة والإسكندرية، دمياط والسويس ودمنهور والمنصورة؟ أم أنه كان هناك وراء الأكمة شيء ما، وكان الهدف بدافع التخلص من جيل كامل من الكرد ومن معقل وطني تاريخي مرتبط بقضيته ووطنه بشكل كبير. عامودا كانت الضحية، ضحية الحقد والكراهية التي يكنّها الشوفونيون والعنصريون للكرد على الرغم من أن الكرد مسالمون، ولم يعتدوا على أحد بالرغم من الاعتداء عليهم وتقسيم وطنهم بين أربعة دول وفرض سياسات تتريك، وتعريب، وتفريس عليهم. المسألة كانت عبارة عن انتقام من الكرد عبر القضاء على جيل كامل من شباب المستقبل.
خاتمة الحديث
إن حريق سينما عامودا لا يقل بشاعة عما قامت به الفاشية التركية بحق الآلاف من الكرد في باكور كردستان من خلال المجازر والإبادات الجماعية وكذلك الأمر في روجهلات على يد الأنظمة الإيرانية المتعاقبة، وفي باشور كردستان على يد نظام صدام حسين خاصة في عمليات الأنفال وحلبجة. لم يكتفِ النظام السوري السابق بهذه الجريمة البشعة بحق عامودا، وارتكب الكثير من المجازر بحق الكرد في روج آفا مثل حريق سجن الحسكة، الذي راح ضحيته 63 شخصاً معظمهم كرد. جريمة أخرى لا يقبلها العقل بسهولة إذ كيف يُعقل أن يتم حرق السجناء، الذين من المفترض أنهم في أكثر الأماكن أماناً وهناك حراسة مشددة؟ كما قامت هذه السلطات بارتكاب مجزرة في قامشلو خلال انتفاضة 12 آذار 2004.
حان الوقت لأن يقول الكرد كلمتهم أمام العالم أجمع، وأن يديروا مناطقهم بأنفسهم جنباً إلى جنب مع شركائهم في الوطن، العرب، والسريان، والأرمن، والشركس، والآشور، والشيشان، والتركمان.
الثقافة – صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=79605





