الأربعاء 16 تموز 2025

حزب العمال الكوردستاني ما بين القداسة والعداء، جدلية أبعد من التحليل السياسي

د. محمود عباس

بغضّ النظر عمّا إذا كنا من مؤيدي أو معارضي حزب العمال الكوردستاني، يظلّ المشهد الرمزي لإحراق المناضلات الكورديات سلاحهن أمام عدسات الإعلام العالمي مشهدًا مؤلمًا حدّ الوجع، عميقًا حدّ الخشوع، ففي تلك اللحظة لم يُلقَ مجرد كلاشنيكوف، بل فُتحت صفحة دامية من تاريخ النضال الكوردستاني، كتلك التي كُتبت على حبال المشانق، أو خُتمت برصاصات الغدر والخيانة.

إنها لحظة لم تُختزل في صورة، بل كان عبور بين الحلم والخذلان، بين العبرة والدمعة، بين حسرة القلب وهمسة التحدي، وقد تكون قد أثلجت صدور الأعداء، لكنها في العمق شرّعت بابًا جديدًا في ذاكرة الكفاح الكوردي، ذاكرة لن تصمت، لأنها لم تُخلق لتُطفأ.

فالنار التي التهمت السلاح، لم تُطفئ الفكرة، ولم تُنكر التضحيات، بل أعلنت، بصمتٍ شاهق، أن النضال لا يُختزل في بندقية، بل يمتد في عناد التاريخ، وصبر الشعوب، وإرادة لا تُملى ولا تُكسر.

لكن المشهد لم يكن معزولًا عن خلفية أعقد، بل كان صدىً لصوتٍ أكبر، لطريقٍ شائكٍ سار عليه حزبٌ أثار من الأسئلة أكثر مما قدّم من الإجابات، وخلّف من الجدل ما فاق سرديات الانتصار أو الهزيمة، فذاك السلاح المحترق، لم يكن مجرّد نهاية لحظة، بل كان تكثيفًا رمزيًا لمسيرة حزبٍ طالما شكّل منعطفًا حادًا في مسار القضية الكوردية، وأعاد تعريف مفاهيم النضال، والثورة، والسلطة، وحتى الحرية، بطرقٍ أثارت الكثير من الانقسام، والإعجاب، والريبة في آنٍ معًا.

  فحزب العمال الكوردستاني يُعدّ من أعقد الظواهر الحزبية التي شهدتها الساحة الكوردستانية، بل والإقليمية عمومًا، ليس فقط بسبب بنيته التنظيمية المتداخلة، ولا بفعل مسيرته العسكرية والسياسية الطويلة، وعداءه الصارخ مع بعض الأطراف الأخرى من الحراك الكوردستاني، بل لما أثاره ويثيره من جدل دائم، حتى بين أكثر المحللين دراية، وأكثر المتابعين قربًا منه، سواء أكانوا من المؤيدين أم المناوئين، من الكورد أنفسهم أو من الأنظمة التي تحتل كوردستان.

لم يكن هذا الحزب، كما أراد البعض تصويره، مجرّد تنظيم تم احتواؤه من قبل بعض القوى الإقليمية لمرحلة ثم لفظته خارطة المصالح، بل هو كيانٌ تطوّر خارج حدود المعادلات التقليدية للأحزاب، وتحول مع الزمن إلى ظاهرة فكرية–سياسية تستعصي على التصنيف، والأكثر غرابة من كل ذلك، أن الصراع الأشد حول الحزب، لم يكن دائمًا مع خصومه التاريخيين، بل مع داخل البيت الكوردي نفسه.

فالخلاف الكوردي–الكوردي حول وجوده، وغاياته، وآلياته، بات أكثر حدة من صراع الحزب مع الأنظمة المركزية، بل إن بعض أشرس منتقديه اليوم هم من كانوا يومًا من أبرز مريديه، هناك من كانوا ينظرون إلى قائد الحزب عبدالله أوجلان بعين النبوة، وآخرون قدّسوا تجربة الحزب كما قدّس العربي الإسلام في لحظة التحوّل العقائدي، لا من باب الفهم، بل من باب الاستسلام الكلي.

هذه العلاقة المزدوجة، ما بين التقديس والعداء، لا يمكن اختزالها في أخطاء قيادية، أو انحرافات أيديولوجية، أو حتى تجاوزات عسكرية وسياسية، ما يطرحه الحزب من جدلية فلسفية حول الأمة والدولة، ومنظومة القيادة، والعلاقة بين السلاح والفكر، رغم خلافنا مع بعض هذه الطروحات الطوباوية إلى حد ما، خاصة الإيديولوجية، لكن يضعه في مكان معقد يتجاوز مسارات الأحزاب الكلاسيكية، ولذلك، فإن أي مقاربة تحليلية جادة للحزب يجب أن تتحرر من منطق العداء التقليدي، أو التقديس العقائدي، لتنتقل إلى مساحة نقدية أوسع، ترى فيه كظاهرة متحركة ومتحولة، لا ككيان جامد محكوم بنهايات محددة سلفًا.

لقد أخطأ الحزب كثيرًا، وتسبب، أحيانًا، بكوارث على مستوى الصراع الكوردي–الكوردي، وعرقل فرصًا استراتيجية مهمة، وأدخل الساحة الكوردية في نزاعات مريرة مع قوى أخرى، لكنه في المقابل، لم يكن أبدًا حزبًا يمكن تجاوزه أو تجاهله، بل ظل أحد الفاعلين الأساسيين الذين فرضوا أنفسهم في معادلات الدول المحتلة لكوردستان، وتحوّل في كثير من اللحظات إلى صوت يختصر الهامش الذي لم ينجح الآخرون من الحراك الكوردستاني في تمثيله.

لذلك، فإن الحديث عن حزب العمال الكوردستاني لا يجب أن يتم من زاوية عداء سياسي ضيق، ولا من منبر تقديس أيديولوجي، بل من منصة تحليل جدلي، تاريخي–فكري، ترى تعقيداته بعيون ناقدة لا مشوّهة، وتقرأ تأثيره فيما هو كوردستاني، وفيما هو إقليمي، بل حتى فيما هو أممي، حيث تجاوز الحزب، بطرحه، حدود الجغرافيا نحو خطاب سياسي دولي أراد به، على الأقل نظريًا، يحاول كسر مفهوم الدولة القومية وإعادة تركيب العلاقة بين الشعب والسلطة من جديد، وهذا ما أثاره رسالة السيد عبد الله أوجلان، والتي وسعت الخلاف بين اطراف الحراك الكوردي والعمال الكوردستاني، الخلاف الذي خلقته المطالبة بكوردستان الكبرى، وعلاقاته مع بعض الدول الإقليمية.

النقلة من العمل المسلح إلى النضال السياسي، لم تكن تراجعًا أو اعتذارًا عن النضال السابق، بل كانت قراءة دقيقة لمتطلبات المرحلة، وانخراطًا في مفاوضات مع العدو خلف الكواليس.

هذا التحول الاستراتيجي لم يأتِ من فراغ، بل جاء في ظل متغيرات إقليمية ودولية معقدة، وتحولات في بنية الصراع، ووعي متصاعد بأن البندقية وحدها لا تصنع المستقبل، ما لم تُرافقها رؤية سياسية وشراكة مجتمعية واسعة.

وفي المقابل، لم يخلُ خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من التناقضات؛ فقد ظل يتأرجح بين “أخوة تركية–كوردية” وبين مقولات “الدولة الواحدة، العلم الواحد”، تلك العبارات التي تعكس قلقاً دفيناً من قادم الأيام، ومن احتمالية المساس بوحدة الجغرافيا المصطنعة المسماة بـ”تركيا”. هذا التوجس يتجلى بوضوح في محاولات دؤوبة لتفادي تداعيات الاعتراف بالحقوق الكوردية، عبر التنازلات الجزئية والشعارات المزدوجة.

وبين خطاب يتقمص الاعتذار الضمني عن الممارسات العنصرية التي عانى منها الشعب الكوردي، كمنعه من التحدث بلغته الأم لعقود، وبين وقائع دامغة مثل ما جرى للسيدة العظيمة ليلى زانا، التي جُرّدت من حصانتها وحريتها بسبب كلمة ألقتها بالكوردية في البرلمان التركي، تطفو على السطح اليوم تسريبات حول نية البرلمان نفسه تشكيل لجنة دستورية جديدة، قد تتضمن لأول مرة بنوداً تعترف باللغة الكوردية وحقوق الشعب الكوردي، في مشهد يراوح بين المراوغة السياسية والتكتيك المرحلي.

وسط هذا المشهد، جاءت دموع زوجة أردوغان، التي لم يُعرف أكانت فرحًا بانتصار تركيا كما كرر زوجها مرارًا، أم تأثرًا ببداية عهدٍ جديد من السلام الداخلي؟ إم إنها عاطفة المرأة التي تأثرت بخطاب زوجها، وربما كان المشهد بأكمله أقرب إلى التمثيل السياسي، منه إلى التحول الحقيقي، ما دامت الحقوق تُقاس بالخطابات لا بالتشريعات، وبالدموع لا بالدساتير.

لقد بدا واضحًا أن ما جرى في مفاوضات إيمرالي، والحوارات السرّية في أوسلو، وقبلهما مسيرة السلام الفاشلة ما بين 2013 و2015 وغيرها من المحاولات، التي لم تكن مجرد لحظات عابرة في تاريخ العلاقة بين الأنظمة التركية والشعب الكوردي، بل كانت محطات اختبارٍ عسيرٍ لمقدار استعداد الدولة للاعتراف بالحقيقة التي لطالما أنكرتها، أن الكورد ليسوا ضيوفًا في وطنهم، بل أصيلون في جغرافيته وتاريخه.

غير أن الدولة العميقة، في كل مرة، كانت تسارع إلى إجهاض هذه المسارات، بمجرد أن يقترب الحديث من جوهر القضية، الفيدرالية، اللغة، والهوية الوطنية الجامعة.

هكذا ظل السلام مؤجلاً، تدوسه حسابات الانتخابات، وتحاصره عقدة الخوف من تفكك الدولة، وما لم تُكسر هذه الحلقة المفرغة، فإن كل المفاوضات ومحاولات السلام، لن تكون إلا فصولًا أخرى في مسرحيةٍ لا تنتهي، تُكتب بدماء الكورد وتُخرجها مؤسسات الأمن القومي التركي.

الولايات المتحدة الأمريكية

11/7/2025م