حكومة دمشق الانتقالية تنهك الدولة والمجتمع!

أفين شيخموس

تلعب الحكومات الانتقالية التي تتشكّل بعد النزاعات الطويلة دوراً محورياً في سدّ الفراغ السياسي وبناء أسس الدولة الجديدة. وتعتمد فعاليتها على عوامل مثل سعة التمثيل، الشرعية، والصلاحيات الممنوحة لها. تتشكّل هذه الحكومات عادةً بعد انهيار نظام حكم سابق نتيجة حرب أو ثورة، وتهدف إلى سدّ الفراغ السياسي وإعداد دستور جديد وتحقيق العدالة الانتقالية.

وتختلف الحكومات الانتقالية عن حكومات تصريف الأعمال المؤقتة، إذ تتمتع بصلاحيات أوسع تتيح لها مواجهة الأزمات، كإبرام الاتفاقيات وإصدار القوانين الاستثنائية. في المقابل، تواجه الحكومات الانتقالية عقبات جسيمة، منها انعدام الاستقرار الأمني وغياب التمثيل العادل للمكونات العرقية والطائفية وتفشّي الفساد والانهيار الاقتصادي، فضلًا عن الضغوط الدولية.

ومن أهم عوامل نجاح هذه الحكومات: شمولية التمثيل، والدعم الدولي، وتحديد صلاحيات واضحة. وتُعد الحالة السورية نموذجاً معاصراً للتحديات التي تواجه مثل هذه الحكومات، بدءاً من قضايا الأمن وصولاً إلى إعادة بناء الهوية الوطنية في مجتمع منقسم.

الحكومة الانتقالية السورية

تُعد الحكومة الانتقالية التي تشكّلت في سوريا بقيادة أحمد الشرع نموذجاً معقداً للحكم في مرحلة ما بعد الصراع، وهي مرحلة تتطلب تحليلاً قانونياً وحقوقياً وسياسياً دقيقاً.

فمن ناحية الشرعية الدستورية، تشكّلت الحكومة بموجب «الإعلان الدستوري الانتقالي» الذي أُلغيت بموجبه أحكام دستور عام 2012، ونُقلت السلطة التنفيذية إلى رئيس الحكومة الانتقالية بصلاحيات واسعة شملت حلّ المؤسسات الأمنية القديمة وإصدار قوانين استثنائية، وفقاً للمادة (35) من الإعلان.

أما من حيث التمثيل القانوني، نصّ الإعلان على ضرورة تمثيل كافة المكونات السورية، إلا أن التطبيق العملي واجه إشكالات عديدة؛ إذ ضمّت التشكيلة 23 وزيراً من خلفيات طائفية وسياسية تبدو متنوّعة ظاهرياً فقط.

وعلى المستوى الحقوقي، أعلنت الحكومة إنشاء هيئة للمحاسبة والمصالحة لمحاكمة مرتكبي الانتهاكات في الساحل السوري ضد العلويين، غير أن التقدّم في هذا الملف كان محدوداً بسبب هيمنة هيئة تحرير الشام على مفاصل الدولة، ما أعاق محاسبة عناصرها. كما ساد الغموض في ما يخصّ آليات حماية الشهود وضحايا الانتهاكات، مع تمديد فترة التحقيق لمدة ثلاثة أشهر غير قابلة للتجديد. ويُضاف إلى ذلك، الجرائم المستجدة في مناطق أشرفية صحنايا بريف دمشق التي تُرتكب بحق المكون الدرزي.

تعتمد الهيكلية السياسية لهذه الحكومة على تحالف غير متوازن بين هيئة تحرير الشام، التي استحوذت على الحقائب الأساسية، ونخبة مدنية شكلية من مناطق كانت تُعرف سابقاً بـ«المحررة»، مثل إدلب، مع تمثيل رمزي لبعض المكونات، كتعيين وزير كردي ووزيرة مسيحية.

المواقف الدولية والداخلية

تباينت ردود الفعل الدولية إزاء هذه الحكومة؛ فقد أبدت الولايات المتحدة تفاؤلاً حذراً وربطت رفع العقوبات بشروط محددة، منها: تفكيك الأسلحة الكيميائية، وإبعاد المقاتلين الأجانب عن المؤسسة العسكرية، وضمان حقوق جميع المكونات. في المقابل، أشار تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» إلى أن الإعلان الدستوري الذي وقّعه الشرع يمنحه صلاحيات مطلقة في تعيين السلطتين التشريعية والقضائية دون أي ضوابط أو توازن، ما يعزز هيمنة فصيل واحد.

أما موقف روسيا وإيران، فظلّ غامضاً. وفي الداخل، رفضت كل من الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري الاعتراف بشرعية الحكومة الانتقالية.

رغم أن حكومة الشرع سعت إلى ملء الفراغ السياسي، فإنها واجهت تحديات جذرية جعلتها نموذجاً لـ«حكومة انتقالية هشة» تُجسد تعقيدات المرحلة الانتقالية في مجتمعات ما بعد النزاع، حيث تتغلّب الحسابات الأمنية على متطلبات العدالة والإصلاح.

الهيمنة على مفاصل الدولة

شكلت الهيمنة على مؤسسات الدولة سمة رئيسية في التاريخ السوري الحديث، سواء خلال عهد نظام الأسد أو في المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوطه. تعكس هذه الهيمنة تداخلات سياسية وطائفية واقتصادية، مع تدخلات إقليمية ودولية بارزة.

على الصعيد العسكري، بدأت هذه الهيمنة منذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970، حين بسطت عائلته سيطرتها على المؤسسات الأمنية والعسكرية. وكرّس هذا النهج لاحقًا ماهر الأسد خلال فترة حكم شقيقه بشار. وبعد سقوط النظام، انتقلت الهيمنة إلى هيئة تحرير الشام التي سيطرت على مؤسسات الدولة بعد مؤتمر «النصر»، في مشهد يُظهر وكأنه استبدال سلطة بأخرى تحت غطاء التغيير الثوري.

توصف حكومة الشرع بأنها «حكومة لون واحد» هيمن عليها المقرّبون منه ومن هيئة تحرير الشام، خصوصاً في الحقائب السيادية، مثل:

وزارة الدفاع: مرهف أبو قصرة

الخارجية: أسعد الشيباني

الداخلية: أنس خطاب

العدل: مظهر الويس 

أي أن ثمانية من أصل 23 وزيراً ينتمون إلى هيئة تحرير الشام كعضوية مباشرة، في حين احتفظ معظم وزراء حكومة تصريف الأعمال السابقة بمناصبهم، ما أضعف مبدأ الفصل بين السلطات الذي نص عليه الإعلان الدستوري. ويُظهر تعيين الشرع المقرّبين منه في المناصب الحساسة نهجاً ممنهجاً لتعزيز السيطرة يُفسَّر من زاويتين:

ضمان الولاء الداخلي: فمثلاً، تعيين أنس خطاب وزيرًا للداخلية، وهو القائد الأمني السابق في هيئة تحرير الشام، يضمن ولاء الأجهزة الأمنية للشرع.

التحكم بالموارد الاقتصادية: إذ تتيح المناصب السيادية السيطرة على الميزانية العامة وعقود إعادة الإعمار. كما يُعد تعيين أسعد الشيباني وزيراً للخارجية محاولة لطمأنة أنقرة والرياض بمواصلة التعاون الأمني.

لا يعد هذا التوجه مجرّد محاباة، بل آلية للبقاء السياسي في مشهد سوري معقّد يعاد فيه إنتاج هياكل السلطة الاستبدادية بأدوات مختلفة ويُهدد بخلق أزمات جديدة إذا لم يُعالج التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

حالة الفصائل داخل وزارة الدفاع

منذ تأسيسها، عانت وزارة الدفاع الانتقالية من انقسامات داخلية حادّة ناجمة عن تعددية الفصائل والميليشيات المدمجة ضمنها، والتي تختلف في رؤاها الاستراتيجية والأيديولوجية والانتماءات الإقليمية.

ورغم الإعلان عن اندماج نحو 100 فصيل مسلح داخل الوزارة، لم تتمكن القيادة من توحيد هذه الكتل تحت سلطة مركزية واحدة. أظهرت الوقائع الميدانية، خصوصاً في الساحل الغربي ومناطق الشمال، أن عناصر الوزارة يتصرّفون باستقلالية ميدانية بل وتصادمية أحياناً مع جهاز الأمن العام، ما يعكس غياب الانضباط التنظيمي الداخلي.

تتفاقم هذه الانقسامات بسبب التدخلات الإقليمية. فـتركيا تدعم فصائل «الجيش الوطني» وتضغط لإقصاء «قسد» من المعادلة العسكرية، في حين تمدّ الولايات المتحدة «قسد» بالدعم اللوجستي والمعلوماتي لمحاربة تنظيم داعش، ما يمنحها نفوذاً كبيراً يصعب تجاوزه. وفي الوقت نفسه، تسعى روسيا للحفاظ على دور فاعل من خلال منطقة الساحل وتأمين قواعدها في حميميم.

تعكس هذه الانقسامات عمق التعقيد في مسألة «توحيد البندقية» في سوريا ما بعد الأسد. فاختلاف الأجندات وتعدد الفصائل والتباينات العقائدية والمصالح الإقليمية، كلها تحديات تُصعّب من مهمة بناء جيش وطني موحّد دون توافقات سياسية أوسع وضمانات دولية راسخة.

حتى اللحظة، تعكس حكومة الشرع هيمنة واضحة لهيئة تحرير الشام وحلفائها، مع إقصاء المكونات السورية الأخرى، ما يجعلها نتاجاً لبيئة سياسية هشة يهيمن عليها منطق الإقصاء.

يُقوّض هذا النهج فرص تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي ويزيد من حدة الانقسامات الداخلية، في ظل تحديات أمنية واقتصادية مستمرة. فرغم ادعاءات الاستقرار، تُعيد الحكومة إنتاج أزمات مزمنة قد تؤدي إلى انهيار الدولة ذاتها.

لا يكمن الحل في تقاسم النفوذ بين الفصائل، بل في صياغة عقد اجتماعي جديد يعترف بالتنوع ويحوّله من عبء إلى مصدر قوة وطنية شاملة.

المصدر: المركز الكردي للدراسات