د. محمود عباس
ما يجري اليوم في سوريا هو محاولة مقنّعة لإذابة الشعوب عبر فرض ثقافة ظلامية، لا تسوية سياسية، وعلى من يراهن على الثانويات أن يتحمّل مسؤولية الجريمة كاملة.
خارج الفلك السياسي الضيّق، ومحاولات المناورة على أوتار متناقضة في أروقة دبلوماسية معتمة، بات لزامًا علينا، كحراكٍ كوردي، أن نواجه المجتمع السوري والعالم بالحقائق كما هي، بلا مواربة ولا تزييف. لا يجوز أن نكذب على أنفسنا، ولا على شعبنا، ولا على الشعوب السورية، وأن نقولها بوضوح، لا يمكننا، ولا نستطيع، العيش في ظل حكومة سورية انتقالية تعمل على إعادة البلاد إلى عصر الظلمات، وتبني مجتمعًا يُكفِّر التفكير، ويؤسّس لثقافة النقل قبل العقل.
ما يُبنى اليوم في سوريا لا يهدّد وجودنا السياسي فحسب، بل يرعبنا ثقافيًا، ويدمّر منظومتنا القيمية، ويشوّه حرية الإيمان ذاتها. ومن واجبنا أن نُعلن للعالم أننا لن نسمح بتدمير ثقافتنا القومية والوطنية، ولن نرضخ لثقافة منظمات غارقة في عتمة التاريخ، تسعى لفرض نموذج أحادي يُقصي التنوع ويقمع الاختلاف.
علينا أن نقولها بلا تردّد، الخلافات أعمق بكثير من صراع سياسي عابر، أو تفاهمات ظرفية على بنود دستورية أو تشكيلات برلمانية. إنها صراع إيديولوجي، وتضادّ ثقافي خطير، يستحيل فيه التلاقي بين فكرٍ ظلامي تكفيري، وفكرٍ يؤمن بحقوق الإنسان بوصفها حقوقًا غير قابلة للتجزئة، وثقافة لا تعترف بإنسانية الإنسان؛ لا تميّز بين امرأة ورجل إلا بالقهر، ولا بين دين وآخر إلا بالإقصاء، تُشرعن سبي النساء وإحياء أسواق النخاسة، وتُبيح قتل المختلف عقيدةً ومذهبًا.
إن خلافنا مع الحكومة السورية الانتقالية ليس سياسيًا فحسب، بل هو خلاف وجودي أخطر، إذ لا يمكن القبول بإطلاق يد مجموعات تفرض إدارة الجامعات بقرار شيخ، وتغيّر المناهج بفتوى، وتبني أجيالًا على أفكار مذهبية مظلمة. فأي اتفاق مع هذه الحكومة، من دون نظامٍ فيدرالي لامركزي سياسي واضح، سيكون جريمة بحق شعوب سوريا كافة. والسماح للتكفيريين بإدارة المحاكم، والقضاء، والجامعات، والمدارس، لن يعني سوى دفع شعوب المنطقة نحو مقبرة جماعية في عمق الصحراء.
ويجب أن تُقال هذه الحقيقة للدول الكبرى والإقليمية، وللمبعوث الأميركي توماس باراك، بوضوح لا لبس فيه، توحيد سوريا قسرًا، وفرض القبول بما يُراد لها، أمر شبه مستحيل. فالشعوب السورية، وفي مقدمتها الشعب الكوردي، لن ترضخ لثقافة عصر الظلمات. والسؤال البسيط الذي يجب أن يُطرح عليه، هل يستطيع هو نفسه أن يعيش تحت ظل هذه الأفكار؟ وهل يقبل أن يدرس أطفاله أو أحفاده في مدارس تُقدّس النقل وتجرّم العقل؟
لنكن واضحين، كحراكٍ كوردي، وخصوصًا في بعده الثقافي، نحن شعب رفض الاستبداد قرونًا، وواجه الأنظمة الإجرامية والتكفيرية بأشكال متعددة؛ بالثورات حينًا، وبالصبر حينًا، وبالحوار حينًا آخر. واليوم نرفضه بالمواجهة الصريحة. وإن لم تدرك القوى الكبرى هذه الحقيقة، فإن أمامنا وسائل أخرى كثيرة للدفاع عن وجودنا، ولن نسمح بالذوبان في مستنقع الوباء الثقافي الذي يُبنى في سوريا، ويُخطَّط لفرضه على شعبنا الكوردي، وعلى شعوب جغرافية كوردستان المتعددة الأديان والهويات، لتدمير تنوّعها ورونقها التاريخي.
وأي حوار، دوليًّا كان أم كورديًّا، مع حكومة تُعيد إنتاج ثقافة الفتوى وتُجرّم العقل، لن يُسجَّل كواقعية سياسية، بل كشراكة في تدمير مستقبل سوريا. وعلى الولايات المتحدة أن تدرك أن تضييع الأولويات، ومقايضة القضية الكوردية ببعض الحقوق السياسية الآنية، وترك فرض الثقافة الظلامية، ليس خطأً تكتيكيًا، بل جزء من مخطط لإذابة الكورد كثقافة وتاريخ ولغة وانتماء حضاري. فالأنظمة تزول، أمّا من سهّل محو الشعوب فسيُحاسبه التاريخ.
الولايات المتحدة الأمريكية
19/12/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=81419




