الأحد, مارس 9, 2025

دور مصطفى البارزاني في المجال الدبلوماسي

بقلم: نعمت شريف

الدبلوماسية:
تعني بدراسة مجموعة العلاقات المنظمة بشكل رسمي بين الدول او الكيانات التي ترتبط مع بعضها سلما او حربا. ولذلك فالدبلوماسي هو المسؤول عن تبيان وشرح العلاقات التي تربط دولته بالدولة المضيفة وغيرهما ممن يجري في فلكيهما من دول وكيانات فبالضرورة لابد ان يكون شخصا واسع الاطلاع ومثقفا من الطراز الاول فعليه ان يكون عالما بامور بلاده من النواحي السياسية والاقتصادية والادارية اولا وان يكون مطلعا على امور الدولة المضيفة من الجوانب نفسها وخاصة ما يتعلق بعلاقات تلك الدولة مع الاخرين ثانيا، وان يكون ملما بأدارة الازمات وايجاد الحلول اللازمة. ولذلك فان الدبلوماسي الناجح هو من يعكس موقف بلاده الى الدولة المضيفة ويعكس موقفها الى بلاده ليستطيع المسؤولون في كلي البلدين التعامل مع مستجدات الامور ويتعامل مع المستجدات على ضوء سياسة بلاده وان يخرج بحلول ترضي الطرفين في حالة حدوث مشاكل بينهما بحيث لا يشعر الطرف المقابل بالغبن لتحقيق حل مستدام بينهما. وكما يتبادر الى الذهن دائما ان السفير هو الدبلوماسي المسؤول عن طاقم من المختصين والخبراء في العلاقات بالاضافة الى طاقم الادارة لشؤون السفارة وغيرها، فهو ليس فقط ساعي بريد ينقل الاخبار والمواقف بين دولته والدولة المضيفة كما يعتقد البعض.

تاريخ الدبلوماسية:
قبل ان نتكلم عن دبلوماسية البارزاني لابد من الاشارة الى ان بداية الدبلوماسية في التاريخ بدأت في كردستان في عصر الدولة الحثية التي استمرت لاكثر من 1000 عام وشملت كردستان الشمالية والجنوبية ومن ثم امتدت لتشمل سوريا ولبنان واجزاء من فلسطين وكانت عاصمتها في كردستان الشمالية في هاتوسا قرب (بوغازكيل) الحالية في تركيا ثم في حوالي 350 سنة الاخيرة انتقلت الى منطقة بهدنان في كردستان الجنوبية، وعلى الارجح ان الاسم هيتيتي لقرية قريبة من دهوك بقيت منذ ذلك الزمان. الحثيون (هيتيتي-بالكردية) اقوام هندو-اوروبية حسب الدراسات الحديثة ولا يزال المؤرخون الكرد يتأرجحون في تقبلهم كاحد الامبراطوريات التي تمثل احد الجذور المهمة للشعب الكردي. تذكر الدراسات الانجيلية ان عددا من الجنرالات الكبار في جيش نبي الله داوود (ع) كانوا من الحثيين وما نفرتيتي الملكة المصرية الجميلة وزوجة الفرعون الا بنت احد ملوك الحثيين وكان الزواج ثمرة لعلاقة دبلوماسية ممتازة بين الملك الحثي والدها وبين فرعون مصر.

سنقدم هنا بعض الامثلة على سلوك البارزاني الدبلوماسية الذي ربما غير سلوك الاخرين او أثرعلى عملهم الدبلوماسي الى الابد.

مع شاه ايران: بعد انهيار جمهورية مهاباد حاول البارزانيون العودة الى العراق ولكن بعد ذوبان الثلوج اي بعد شهرين او ثلاثة اشهر. لم يقبل الايرانيون بذلك فقرر البارزاني في الذهاب الى طهران بنفسه للقاء قوام السلطنة او الشاه لطلب السماح لهم بالبقاء في الاراضي الايرانية الى حلول الربيع وبعد الرفض طلب مقابلة الشاه. وبعد جولات من الحرب النفسية والانتظار التقى بالشاه الذي اعطاه خيارين اما الانتقال الى جنوب ووسط ايران وستسهل الحكومة هذه العملية بالنقل والمساعدات وغيرها، واما مغادرة الاراضي الايرانية فورا وانه يريد الجواب حالا او على الاقل قبل مغادرة طهران، والا ستشن القوات الايرانية هجوما كاسحا عليهم. وبكل هدوء اجابه البارزاني ان قال قرار الحرب والسلم ليس بيده فتعجب الشاه قائلا ومن يقرر فاجابه البارزاني انه بيد اخي الكبير الشيخ وانا مبعوث لا غير فقال الشاه وكيف ذلك؟ فاجابه البارزاني جناب الشاه انت لا تذهب للمفاوضات بنفسك ولكت تبعث من تثق به ونحن كذلك، ولو كان القرار بيدي لما جئت الى هنا بنفسي واذا تاخرت في العودة فهناك من سيحل مكاني. ان ما اقوله هنا انني ساعود اليه واشرح له الخيارات التي اقترحتها علي فاذا قرر القبول بالانتقال الى الجنوب فبالتاكيد سنعود ونطلب مساعدتكم لانجاز ذلك، وكما تعلم انه معنا عوائل من نساء واطفال والطرق مسدودة والثلوج لا تسمح لنا بالرحيل. كان هدف البارزاني في هذه المرحلة من المفاوضات مغادرة طهران باسرع وقت وكان قد شعر بنوايا الشاه السيئة تجاهه وكان كما اراد.

مع خروشوف في الكرملين: بعد ثلاثة ايام من الاعتصام امام الكرملين سمح له بمقابلة خرشوف. ولما دخل وجد معه اثنين اخرين من المكتب السياسي للحزب السوفياتي. وبمجرد دخوله الغرفة قال له خروشوف لماذا جئت الى هنا من دون اذن فانت مسؤول عن عملك هذا. فقال له البارزاني “انني اعتبر نفسي منتصرا من هذه اللحظة لانني جئت الى الاتحاد السوفيتي لايصال صوت الشعب الكردي الى اعلى هيئة في الشرق، وهي هيئة الكرملين. وانني جئت من اجل شرح قضية الشعب الكردي المظلوم الذي فرقه الاستعمار وقسمه الى اربعة اقسام.

ان هذا الشعب منحني ثقته وانتم دولة كبرى وتقولون انكم تساعدون جميع الشعوب المضطهدة ولاجل ذلك حضرت هنا وطرقت باب الكرملين” وبعد ذلك اشار له بالجلوس فجلس ورحبوا به ثم شرح لهم معاناة اللاجئين وتكلم عن باقروف وكيف كان يدبر المؤامرات ضدهم بالتعاون مع بيريا فسالوه: “كيف عرفت ان باقروف وزمرته خانوا الشعب السوفيتي؟ لاننا عثرنا على 74 رسالة منك بين 48 و 1952 وموجهة الى الكرملين” فاجاب البازاني “عندما ياتي ضيف الى دارما فان صاحب الدار يخدمه قدر امكانه … وانتم تعبرون عن صداقة جميع الشعوب ودعم الشعوب المضطهدة، ولكن باقروف وبيريا كانا خلاف ذلك فهذا خيانة للمبدأ وخيانة للشعب” وفي الحال وعده خروشوف بتحسين ظروف اللاجئين وخصصوا له دارا مؤثثة وسيارة في موسكو، وطلب البارزاني انضمامه الى معهد اللغات بالاضاف الى دروس اخرى فكان له ما اراد.

مع ممثلي الثورة في الدول الخارجية: في اجتماع مع ممثلي الحزب سالهم البارزاني عما فعلوه في الفترة الماضية، فقدم كل تقريره واحدا تلو الاخر وكان رحمه الله يستمع لهم بامعان وبعد ان انتهى الجميع قال لهم حسنا فعلتم جميعا في ايصال صوت شعبنا المظلوم وثورتنا الى العالم وابارك جهودكم، ولكن يبقى سؤال واحد وهو انه ما هو راي هذه الدول عنا وما هو موقفهم من ثورتنا؟ فصمت الجميع ولم يكن لديهم الكثير مما يقولونه، فقال لهم البارزاني واجبكم من الان فصاعدا ان تهتموا باراء الاخرين وتستطلعوا مواقف الدول التي تعملون فيها كما تهتمون بايصال صوتنا اليهم. هذا ما قاله السيد محسن دزه يي في مقال له. اذا لم يكن هذا سلوكا دبلوماسيا في اصعب الظروف فما هي الدبلوماسية اذا! من الجدير بالذكر، ان ممثلي الثورات الكردية على طول الخط لم يكونوا محترفين، ولا حاملي شهادات اختصاص في الدبلوماسية او العلوم السياسية. انهم كانوا طلاب حق آمنوا بقضية شعبهم العادلة وقادتهم الظروف الى الدول التي كانوا يعملون فيها ويتعلمون بمرور الزمن.

دعني اضيف انه رغم تدريس العلوم السياسية وخاصة الدبلوماسية كعلم فنحن لا زلنا في البداية. نجاحاتنا تكمن في شرعية القضية الكردية فهي قضية اكبر شعب في العالم بلا دولة وثالث اكبر قومية في الشرق الاوسط ودبلوماسيتنا في معظهمها ارتجالية اكثر مما هي مؤسساتية، وبكلمة اخرى معتمدة على عدد محدود من المتمرسين بحكم مواقعهم وبحق فهم يلعبون دورا مهما جدا في دفع عجله التقدم للقضية الى الامام. ان متطلبات العلاقات المعاصرة تتطلب ان نتحرك من التمثيل الانفرادي العفوي للاحزاب الى صنع القرار الدبلوماسي المؤسساتي الذي يقف وراءه جيش من الدبلوماسيين المدربين الملمّين بالسياسة والعلاقات الدولية وخاصة وقد بدأ الجامعات الكردستانية بتدريب وتخريج دفعات من المتحمسين للدبلوماسية والذين يتفانون في خدمة وطنهم وشعبهم.

من وجهة نظر تاريخية، معظم زعماء الكرد وليس البارزاني فقط ، فهناك القاضي محمد والامير بدر خان وربما اخرون، لم يعطوا حقهم في حقل الدبلوماسية الكردية، وقبل ان اختم هنا لابد ان اذكر قول الصحفي الامريكي الذي زار البارزاني في اواسط ستينات القرن الماضي دانا آدم شمدت في كتابه رحلة الى رجال شجعان في كردستان “ويملك (يقصد مصطفى البارزاني) ذهنية سياسية متطورة جدا تعينه على التغلغل عميقا حتى يصل الى النتيجة النهائية او الى القلب من المسألة في حين نجد الاخرين ما يزالون غائصين في التفاصيل.”

المصادر:

‘Captivating History’, Hittites, Middletown, DE, USA, 2023 (English)

Bullock John and Morris, Harvey, No Friends but the Mountains, the Tragic History of the Kurds, Oxford University Press, New York, 1992. (English)

Schmidt, Dana Adams, Journey اamong Brave Men, Atlantic Monthly Press, Boston, 1964 (English)

بوتاني، د.عبدالفتاح علي، الملامح الاساسية لشخصية مصطفى البارزاني القيادية والانسانية، مطبعة خبات، دهوك، 3/1996(عربي)

الحزب الديمقراطي الكردستاني قسم الاعلام، المسيرة التاريخية الى الاتحاد السوفيتي (1945-1958) 1992 82(عربي)

مامه سيني، د. صابر، دبلوماسية الكرد، مكتب تفسير، هولير، كردستان 2022(كردي)

شارك هذه المقالة على المنصات التالية