الخميس, سبتمبر 19, 2024
آراء

د. مهيب صالحة: “سعر صرف الليرة السورية وانعكاساته على مستوى معيشة الأفراد “

إن اللغط الجاري الآن حول سعر صرف الليرة السورية هو دليل قاطع على استهتار ذوي الشأن وصناع القرار بمصير شعب بالتلاعب بلقمة عيشه، ووطن بالتضحية به لمآرب دونية.

فالعملة الوطنية مرآة الاقتصاد وقوتها من قوته، وضعفها من ضعفه، والقاعدة الاقتصادية التي تدعم المركز المالي للعملة تقوم بالأساس على القدرات الاقتصادية المتاحة لإنتاج السلع والخدمات في الصناعة والزراعة والبناء والتشييد والسياحة والتجارة…والتي من شأنها تحسين ميزان المدفوعات وزيادة احتياطي البلاد من العملات الأجنبية والذهب من خلال زيادة عوائد التصدير وعوائد الاستثمارات الوطنية في الخارج والعوائد الضريبية على الاستثمارات الأجنبية في الداخل، وتحويلات المواطنين المقيمين خارج البلاد ومن قوة جذب الجهاز المصرفي الوطني للودائع الوطنية والأجنبية بالعملات الصعبة وتوظيفها في الاقتصاد …

وإنني أجزم بأن لا شيء من هذا القبيل قد حصل. ويعرف القاصي والداني أن الاقتصاد شديد الحساسية تجاه الأوضاع السياسية والأمنية في أي بلد، لذلك فإن الاقتصاد السوري بسبب الحرب الهمجية التي لم يعد لها أي معنى، يمر اليوم بأزمة ركود تضخمي خانقة نتيجة دمار جزء مهم جداً من بنيته القطاعية وهجرة آلاف العقول والقوى البشرية إلى الخارج وتدني مستواه التقاني وبلوغ الاستثمار مستويات متدنية للغاية…مما يؤدي إلى توقف النمو الاقتصادي مصحوباً بارتفاع كبير في المستوى العام للأسعار والذي بدوره يؤدي إلى تدهور القوة الشرائية للدخول الثابتة إلى الحضيض وسعر صرف الليرة إلى مستويات متدنية، الأمر الذي يزيد من الذين تحت خط الفقر مع فاقة غذائية شديدة…

من هنا يمكن القول أن اللغط الجاري حول سعر الصرف غير واقعي الهدف منه خلق حالة من الهلع في سوق القطع لسحب أرصدة الناس ومدخراتهم من العملات الأجنبية وإجبارهم على بيع موجوداتهم لشراء الحياة، وخلق بلبلة في السوق قد تؤدي إلى انهيارات متتابعة في قدرتهم الشرائية بقيام التجار برفع الأسعار مجدداً تحسباً من عودة سعر الصرف للانهيار من جديد حفاظاً على رؤوس الأموال المستثمرة ومعدلات الربح المقبولة بالدولار، ومن غير المفهوم افتقار السوق لمصادر الطاقة، المازوت والغاز، بالرغم من سماح الحكومة للقطاع الخاص باستيرادها، إلا إذا كانت الحكومة نفسها تضع العراقيل أو متنفذين في النظام يمنعون الاستيراد. أما الرهان على حصول الحكومة على جرعة ما من العملات الأجنبية من هنا أو من هناك فهذه الجرعة كما سابقاتها أثمانها باهظة على البلد في المستقبل عدا عن تأثيرها الآني المحدود والمؤقت بل المخرب من خلال مساهمتها في تأجيج حالة البلبلة والهلع في الاقتصاد التي تقض مستوى الاستقرار الاقتصادي الحالي في ظل المعطيات الراهنة…وأقول للناس :لا تصدقوا ما يقال لكم في الاقتصاد إذا لم تجدوا له انعكاساً ملموساً في مستوى حياتكم ولا تظنوا إذا ارتفع سعر صرف الليرة ستنخفض الأسعار إنما المتوقع هو حصول العكس تماماً فكل ما يجري هو مجرد لعبة قذرة اللاعبون فيها تحركهم مصالحهم الشخصية فقط بدون أي وازع وطني أو أخلاقي…

لكل ما تقدم ، لم يعد السكوت عن مثل هذه السياسات والتصرفات مقبولاً، والمسألة لم تعد فقط مجرد صراع في السياسة وفي ميادين القتال حول مستقبل البلد بين موالاة ومعارضة بل تعدت ذلك لتمس أبسط مقومات الحياة للناس كافة وعلى مختلف مشاربهم واتجاهاتهم وميولهم، والاقتصاد الضعيف منهك القوى سيكون بمثابة القشة التي ستقصم ظهر البعير وتؤدي إلى مزيد من الاهتراء الداخلي وتأجيج نار الصراع السياسي وتجلياته على ميادين الحرب، وربما تغير حوامله. وأخشى ما أخشاه أن تعم الفوضى الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ما تبقى من بلد سواء في مناطق السلطة أو مناطق المعارضة تذهب معها البقية الباقية من وطن دمرته الحرب وأوهن الفساد والمحسوبية وتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية المجتمع برمته.

وإذا لم تتكاتف كل الجهود الوطنية وبأسرع وقت، في الداخل والخارج، لوقف النزيف ومحاربة الفساد والمفسدين والمخربين من الطرفين المتصارعين ووضع حد لطمع التجار والمتنفذين في الاقتصاد الوطني، فإن القادم من الأيام سيجعل الناس يترحمون على هذه الأيام رغم قساوتها وبشاعتها…

لن ينفع السوريين أي تدفق نقدي بالعملة الصعبة من الدول المتدخلة والفاعلة في شؤونهم لرفع سعر صرف ليرتهم، لأنها ستكون مجرد استثماراتهم بالسوريين، التي من شأنها تدمير استثماراتهم الوطنية وجعلهم رهائن لها في المستقبل. فالدول لا تعطي لوجه الله أو محبة خالصة بل لقضاء مصالحها السياسية والاقتصادية والجيوسياسية. إن سياسة الدول لا تقوم على الصداقات إنما على المصالح. وسورية آن لها أن تفكر بمصالحها وأول هذه المصالح هو الوقف الفوري للاقتتال الداخلي، والاعتراف المتبادل بالآخر، وبدء حوار وطني ينتج حلاً سياسياً يضمن عملية تغيير ديمقراطي وبناء دولة حديثة على أساس المواطنة والمشاركة وسيادة القانون، وفي الوقت ذاته تضمن مصالحها الاقتصادية من خلال عملية إعادة بناء تقوم على أسس اقتصادية وعمرانية جديدة ومتجددة تكفل الحرية الاقتصادية للأفراد وتعطي الدولة حق التدخل الاقتصادي والاجتماعي من أجل المحافظة على التوازنات الاقتصادية و تحقيق العدالة الاجتماعية.

 

د . مهيب صالحة / السويداء / آذار ٢٠١٩

 

دكتوراة في الاقتصاد وعميد سابق كلية إدارة الأعمال، الجامعة العربية الدولية، سوريا aiu.edu.sy

 

خاص تموز نت

الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *