د. ولات محمد
قبل سبعة وثلاثين عاما وتحديداً في مثل هذا اليوم من عام 1988 رحل السياسي والمثقف الدكتور نورد الدين زازا عن حياة البشر تاركاً خلفه إرثاً ثقافياً وسياسياً يخلدان عمله واسمه إلى الأبد، ولكنه ترك ـ في المقابل ـ أسئلة معلقة بخصوص ما سمي آنذاك “تغيير موقفه” ما زالت الأجوبة عنها غير موحدة تماماً. المقال محاولة لقراءة جوانب من كتابه المسمى “حياتي الكوردية.. أو صرخة الشعب الكوردي”(1)، وتحديداً ما يتعلق منها بالنقطة آنفة الذكر، ولكن ليس من خلال قراءة ما قاله الدكتور زازا في تلك المذكرات، بل ما لم يقله على نحو خاص أو سكت عنه وترك تأويله للقارئ.
عام 1956 عاد الدكتور نور الدين زازا إلى سوريا حاملاً شهادة الدكتوراه في علوم التربية من جامعات سويسرا بعد نيله الإجازة في العلوم السياسية من بيروت. في العام التالي أعلن مع مجموعة من رفاقه عن تأسيس أول حزب كوردي في سوريا برئاسته هو، إذ وجد فيه رفاقه جدارة للاضطلاع بتلك المهمة، ليس لعمله وثقافته فقط، بل لماضيه النظيف الذي خاض فيه حتى تلك اللحظة معارك فردية كثيرة محاولاً من خلالها نشر قضية شعبه في المحافل الدولية والمؤتمرات التي كان يدعى إليها بوصفه ممثلاً عن الطلبة الكورد في أوربا، كما تمثل جزء من نشاطه ذاك في العمل الإعلامي في كل من أوربا وبيروت قبل ذلك. وكان في مرحلة الشباب قد تعرض للاعتقال والتعذيب في مناسبات عدة.
بعد ثلاث سنوات شنت سلطات الجمهورية العربية المتحدة حملة على أعضاء الحزب الذي كان يعمل في السر آنذاك وألقت القبض على كثيرين منهم (ومنهم الدكتور زازا) بتهمة إنشاء تنظيم سري يدعو لاقتطاع جزء من الأراضي السورية وضمها لدولة أخرى. داخل السجن ثم خارجه فيما بعد تعرض الدكتور زازا لحملة تشهير وتخوين من طرف بعض رفاقه ما زالت موضع جدل واختلاف حتى اللحظة. فما أسباب تلك الحملة وتلك الاتهامات؟ ومن قام بها؟ وما الذي تسبب في ذلك الخلاف أساساً؟ وكيف دافع المتهم عن نفسه؟
أساس الخلاف.. هل كان موقف زازا تكتيكا؟
في أثناء محاكمات أعضاء الحزب المعتقلين نشب خلاف بين المناضلين أوصمان صبري (سكرتير الحزب) ونو الدين زازا (رئيس الحزب) حول الطريقة التي يجب عليهم أن يقدموا بها إفاداتهم أمام المحكمة؛ فالعم أوصمان صبري كان يرى ألا يتنازلوا عن مبادئهم التي آمنوا بها وأن يعلنوا جميعاً أمام القاضي عن السبب الحقيقي لإنشاء الحزب وهو “تحرير وتوحيد كوردستان” لأن هذا الاعتراف ذاته نوع من الإصرار على حقوقهم المشروعة. أما الدكتور زازا فكان يرى أن يقولوا في مرافعاتهم إن أهداف الحزب تقتصر على إزالة الممارسات العنصرية بحق الكورد والمطالبة بالسماح لهم بالتعلم باللغة الكوردية ومساواتهم مع باقي المواطنين. ولفهم أساس الاختلاف في وجهتي نظر المناضلين سنقرأ فيما يأتي بضعة أسطر مما جاء في مذكرات كل منهما:
يقول مقدم كتاب مذكرات أوصمان صبري: “كان عثمان صبري جريئاً وصامداً أمام القاضي الفرد العسكري أمام محكمة أمن الدولة، دافع عن مبادئ البارتي وشعاراته كما هي، واعترف بشجاعة بأن تحرير وتوحيد كردستان من مبادئ البارتي وأن كردستان تدخل في أراضي سوريا من ثلاثة مواقع وهي: الجزيرة، عين العرب (كوباني) وعفرين، وأنه يؤيد دولة كردستان ويتعاطف مع نضال شعبها. وإن كان بينه وبين نفسه قد يستثقل بعض هذه المقولات ويراه غير واقعي، لكنه لم يتخاذل ولم ينهزم ما دام أنه من صلب المنهاج ومقررات الحزب”(2).
من جهته ينقل الدكتور زازا في مذكراته هذا الحوار الذي يدور بينه وبين وقاضي المحكمة في حلب، إذ يسأله القاضي:
ـ هكذا، أتريد إذاً أن تقتطع جزءاً من سورية لإنشاء دولة كوردية كبرى؟ …
ـ (…) بالنسبة لإنشاء دولة كوردية، هذا ليس سوى حلم لا يعلم سوى الله متى وكيف سيتحقق. (…) نطالب باحترامنا في الجمهورية العربية المتحدة لأننا كورد، كما نطلب السماح لنا بتطوير ثقافتنا والاستفادة من دعمها في هذا المجال والتمتع بالحقوق الممنوحة لجميع المواطنين الآخرين” (حياتي الكردية.. ص118).
هذا الفرق الجوهري بين موقفي الرجلين أمام المحكمة هو الذي أدى آنذاك إلى نشوب الخلاف المشهود بينهما داخل السجن. وبطبيعة الحال كان لدى كل منهما داخل السجن وخارجه من أيده ووقف موقفه وسار على دربه. وقد رأى قسم من الحزبيين (مدفوعين بالعاطفة والانفعال وردة الفعل) في موقف الدكتور زازا تراجعاً عن مبادئ الحزب وخيانة لها ولرفاقه الذين رأوا أنه ورطهم بشعار كبير ثم تراجع عنه. أما من سوغ للدكتور زازا موقفه فقد رأى فيه تكتيكاً وخطوة عملية من أجل تخفيف الأحكام على نفسه وعلى رفاقه. وهناك من يردد هذه الفكرة حتى الآن، فهل كان موقف زازا حقاً تكتيكاً ووسيلة لتحقيق غاية؟
إن ما يورده زازا في مذكراته يدحض هذه الفرضية ويُظهر أن موقفه أمام المحكمة لم يكن تكتيكاً لتخفيف الأحكام عنه وعن رفاقه، بل قناعة تولدت لديه في السجن وترسخت فيما بعد. ما يدفعني إلى هذا الرأي ثلاثة أمور وردت في مذكرات الدكتور زازا: الأول أنه يثبت في كتابه الإفادات التي أدلى بها أمام القاضي في المحكمة كما هي، ولا يشير إلى أنه قال ذلك آنذاك تكتيكاً. علماً أنه كتب سيرته الذاتية بعد خمسة عشر عاماً من مغادرته سوريا وبعد أن استقر في سويسرا وحصل على جنسيتها وأصبح في مأمن تام وفي حل من أي حرج بعد أن ترك العمل السياسي الحزبي. فلو كانت تلك الإفادات تكتيكاً لكان من المفترض أن يشير إلى ذلك. الأمر الثاني الذي يدعوني إلى هذا الاستنتاج أنه في سيرته الذاتية يتجنب ذكر اسم الحزب الذي أسسه مع رفاقه وهو “الحزب الديمقراطي الكوردستاني”، فحتى عندما يذكر خبر تأسيس الحزب يسميه “الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا”، ولا يشير إلى اسمه الأصلي ولا يتحدث عن هدف الحزب الأول “تحرير وتوحيد كوردستان”، بل يتحدث عن الحقوق الثقافية والمساواة مع بقية المواطنين وعدم ممارسة العنصرية ضد الكورد كما سبق القول. أما الأمر الثالث فهو أن الدكتور زازا يتحدث عن أهدافه من إنشاء الحزب، وهي ذاتها التي جاءت في إفاداته أمام القاضي، إذ يقول: “في نهاية عام 1957 تحقق الحلم، فقد أصبح الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا حقيقة واقعة، وكانت أهدافه تكمن في الدفاع عن الكيان القومي لكورد سوريا، وتأمين الحقوق الثقافية والإدارية لهم (في إطار نظام ديمقراطي لمجموع البلاد)” (حياتي الكردية.. ص108). مع الإشارة إلى أن عبارة “الكيان القومي” فضفاضة ومضللة، فهي قد تعني الدولة كما قد تعني إدارة ذاتية.
إن هدف الدكتور زازا ـ كما أرى ـ من تدوين مواقفه وآرائه أمام المحكمة في مذكراته، وإظهارها على أنها هي نفسها الأهداف التي تأسس عليها الحزب منذ البداية هو القول للجمهور الكوردي إن موقفه أمام المحكمة لم يكن جبناً أو تخاذلاً أو خيانة، بل قناعة وموقفاً راسخاً ومبدئياً وتكرارأً للمبادئ التي تأسس عليها الحزب. ولكن مع ذلك لا بد من القول إن شيئاً ما قد تغير في موقف زازا أمام المحكمة تسبب في إضرام الخلاف بينه وبين رفاقه، بدليل أن ذلك الخلاف لم يكن قائماً قبل اعتقالهم، بل كانوا جميعاً متفقين على كل شيء ومنسجمين في طروحاتهم داخل الإطار الحزبي الجامع. ولذلك لابد لنا من طرح هذا السؤال: إذا كان هؤلاء القادة جميعاً أسسوا الحزب معاً متفقين على شعاره وبرنامجه، وإذا كان الدكتور زازا من مؤسسي الحزب وقبلَ برئاسته تحت ذلك الشعار، فما الذي جعل قناعته تلك تتغير بعد الاعتقال؟
لا يتحدث زازا بطبيعة الحال في كتابه عن أي تغيير في قناعاته، بل يصور الموضوع وكأن موقفه أمام المحكمة هو موقفه ذاته قبل الاعتقال ومنسجم مع مبادئ الحزب. وهذا غير صحيح بدليل أن الخلاف قد انفجر داخل السجن وفي أثناء المحاكمات وليس قبل ذلك. أما سبب هذا التحول فيمكن أن نعيده لعاملين: الأول أن صدمة الاعتقال ربما وضع زازا مباشرة أمام الواقع فاكتشف أن المسألة أكبر مما كان يتصور أو أنها أخذت مجرى آخر لم يقصده؛ فشعار “تحرير كوردستان” كان يرفعه الكورد القادمون إلى سوريا من شمال كوردستان(3) ومنهم الدكتور زازا، هرباً من ملاحقة السلطات الكمالية التركية الكمالية بعد انكسار ثورة الشيخ شعيد بيران عام 1925، وكان المقصود به كوردستان الشمالية بالدرجة الأولى، رداً على المظالم التي مارسها النظام التركي الكمالي آنذاك بحق الكورد. أما زازا فقد رأى نفسه فجأة يقف مع رفاقه أمام محكمة سورية (وليس تركية) ويواجه تهمة السعي لتقسم سوريا (لا تركيا). وهذا هو السبب الذي ربما دفعه للتخفيف من أهدافه ومطالبه أمام القاضي بما يتماشى مع وضع الكورد السوريين آنذاك. من هنا أتصور لو أن زازا وقف أمام محكمة تركية لأصر على الهدف الذي تأسس على أساسه الحزب كما أصر العم أوصمان صبري بروحه النضالية الثورية والمبدئية.
أما العامل الثاني فهو وشاية رفاقه به تحت التعذيب مما أدى إلى إلقاء القبض عليه كما يذكره زازا نفسه بألم في مذكراته، وهذا ما سيأتي الحديث عنه لاحقاً. في هذا الإطار هناك من يرى أن تغيير الدكتور زازا موقفه أمام المحكمة يعبر عن واقعيته مقابل طوباوية العم أوصمان صبري ورفاقه البعيدين عن الواقع آنذاك. ولكن أصحاب هذا الرأي يتناسون أن الدكتور زازا نفسه وافق العم صبري والآخرين على تأسيس الحزب على تلك الأهداف آنذاك؛ فإذا كان زازا قد تراجع في السجن عن شعار “تحرير وتوحيد كوردسان” لأنه شعار غير واقعي (وهذا هو سبب الخلاف) فإنه كان شريكهم في صياغة هذا الشعار (أو موافقاً عليه على أقل تقدير) واتخاذه الهدف الأول لتأسيس الحزب. وإذا كان في ذلك خطأ وبُعد عن الواقع فهو شريك في ذلك. وباعتباره أكثر وعياً وثقافة وواقعية فعليه تقع مسؤولية مزدوجة.
(في القسم الثاني من المقال: كيف دافع د. نور الدين زازا عن نفسه في كتابه؟).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ د. نور الدين زاز: حياتي الكوردية.. أو صرخة الشعب الكوردي. ترجمة روني محمد دملي. دار ئاراس، أربيل، ط1، 2001.
2 ـ عثمان صبري: مذكرات الأستاذ عثمان صبري (1905 ـ 1993). ترجمة: هورامي يزدي/ دلاور زنكي. مطبعة أميرال، بيروت، ط1، 2001، ص 12 (من مقدمة ملا داود زيني للكتاب).
3 ـ يمكن ملاحظة ذلك مثلاً من خلال أسماء أعضاء جمعية خويبون الاستقلالية التي يقول عنها عثمان صبري (القادم أيضاً من شمال كوردستان) في مذكراته: “لقد سمعت من ابن عمي الذي زار سوريا من قبل أن هناك حزباً سياسياً باسم خويبون، ويهدف هذا الحزب إلى استقلال كردستان. وكان من أعضائه عائلة بدرخان باشا وجميل باشا إبراهيم وأبناء شاهين بك (بوظان بك ومصطفى بك)، وحاجو آغا وأكراد آخرون…”.
عثمان صبري: مذكرات الأستاذ عثمان صبري (1905 ـ 1993)، ص113.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=77524