لورنس الشعير
ينحدر معظم يهود مدينة قامشلو في روج آفا (شمال شرق سوريا) من جذور كردية أصيلة، وتحديدًا من زاخو في إقليم كردستان بالعراق. بدأت هجرتهم إلى الشمال السوري على مرحلتين رئيسيتين: الأولى إلى مدينة نصيبين الحدودية، ثم مع تأسيس مدينة قامشلو في عشرينات القرن الماضي انتقلوا إليها ليكونوا جزءًا من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي.
هذه الهجرة لم تكن عشوائية، بل جاءت للاضطرابات في تلك المناطق والحروب والإبادة العثمانية التي أجبرت اليهود الكرد على البحث عن ملاذ آمن، فوجدوا في قامشلو الناشئة فرصة للاستقرار وممارسة تجارتهم وحرفهم التقليدية.
حياة بين القرى والمدينة
استقر اليهود القادمون إلى قامشلو في أحياء معروفة مثل حي البشيرية والحي الأشوري وحي الوسطى، لكن وجودهم لم يقتصر على المدينة فقط؛ فقد امتلكوا أراضي زراعية مهمة في ريفها، أبرزها في قرى:
– كودو: حيث بنوا كنيسًا من الطين تهدّم بفعل العوامل الجوية.
– تل شعير: التي كانت مركزًا لزراعتهم.
– هيمو ونافكر.
امتلاكهم هذه الأراضي لم يكن مجرد استثمار اقتصادي، بل كان أيضًا وسيلة لتعزيز ارتباطهم بجغرافيا المنطقة.
سوق اليهود: روح التجارة في قامشلو
لعب اليهود دورًا رياديًا في تنشيط الحركة التجارية في قامشلو. في عام 1927 أسس التاجر اليهودي ألبير ناحوم عزرا سوقًا حمل اسمه، وما يزال حتى اليوم يُعرف بسوق اليهود.
اشتهر هذا السوق ببيع:
– التوابل والعطارة.
– التمر والبزوريات.
– بعض وصفات الطب العربي التقليدي وحتى الشعوذة أحيانًا.
حتى الآن، يحتفظ السوق بأبوابه الخشبية القديمة وأعمدته الخشبية، لتبقى شاهدًا على تلك الحقبة.
حياة دينية: كُنُس وقبة ومقبرة
في قلب قامشلو، شيّد اليهود كنيسًا عام 1938 قرب سوقهم المعروف بسوق اليهود، كان يقيم فيه أبناء الجالية صلواتهم اليومية قبل شروق الشمس متجهين نحو القدس. هذا الكنيس أُغلق منذ نحو ثلاثين عاماً، وبات اليوم مغطى بالغبار والإهمال. كما كان لهم كنيس مبني من الطين في قرية كودو، إلا أنّ العوامل الجوية دمّرته تدريجيًا. ولهم أيضًا مقبرة خاصة قرب الحدود مع نصيبين تتوسطها قبة قديمة تُعرف باسم قبة اليهود، والتي يُعتقد أنها كانت قديمًا من بوابات نصيبين التاريخية.
عادات وتقاليد تميّزوا بها
حافظ يهود قامشلو على عاداتهم الخاصة ومنها:
– عدم إشعال النار أو الضوء ليلة الجمعة والسبت، وكانوا يلجؤون لجيرانهم من المسيحيين أو الكرد للمساعدة.
– تجديد مؤونة البيت مع بداية رأس السنة، اعتقادًا بأن ذلك يجلب البركة والتجدد.
– مشاركة الجيران في الأعراس والأحزان دون تفرقة.
ومن عادات الزواج المميزة لديهم أن يقضي العريس الليلة الأولى مع عروسه ثم يعتزلها ثلاثين يومًا.
أسماء عائلات بارزة
من أبرز العائلات اليهودية التي سكنت قامشلو:
– عائلة عزرا: مؤسس السوق الشهير.
– عائلة سامح الياهو: الذي كان مختارًا لحارة البشيرية.
– عزيز شالوم.
– بيت شمشون.
– آل موشي وناحوم.
وقد قُدّر عددهم في أوج وجودهم بما بين 250–300 عائلة، وكان أغلبهم يتحدثون الكردية إلى جانب العبرية والعربية.
سنوات صعبة في عهد نظام الأسد
حسب روايات من عاشوا تلك الفترة، عاش اليهود في عهد حافظ الأسد مضايقات يومية؛ إذ فُرض عليهم التوقيع أو البصم لدى المخفر كل ليلة أو مرتين في الأسبوع لإثبات وجودهم داخل المدينة. كما خضع بعضهم لتحقيقات متكررة ومراقبة مشددة، مما خلق أجواء خوف وقلق دائم، ودفع كثيرين منهم للهجرة عبر تركيا إلى أميركا او إسرائيل أو أوروبا.
ما بقي اليوم من أثرهم
حتى اليوم، بقي:
– سوق اليهود الذي يضم نحو 250 محلًا تجاريًا.
– الكنيس القديم المغلق.
– مقبرة اليهود وقبتهم القريبة من الحدود.
– بيوت طينية في أحياء البشيرية والآشورية مؤجرة لعوائل من قامشلو بأجور زهيدة.
وتُدير أملاكهم جمعية حماية أملاك اليهود التي تجمع الإيجارات وتحوّلها لحساباتهم في الخارج.
ختاماً: ذاكرة لا تُمحى
رغم هجرتهم في التسعينات، ظلّ اليهود حاضرين في ذاكرة قامشلو عبر سوقهم، معالمهم الدينية وذكريات التعايش مع باقي الشعوب من كرد وعرب وسريان. إرثهم هذا يشهد على غنى التنوع الثقافي الذي عرفت به قامشلو، وعلى مدينة احتضنت الجميع في زمن كان فيه التنوع مصدر قوة وجمال.
المصدر: صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=73370