السبت, ديسمبر 28, 2024

رستم جودي: فيان صورة المرأة الحرة

هناك أحداث تهز الإنسان من الأعماق وتتركه في مواجهة إجراء محاكمة جذرية لذاته ومن حوله، أحداث تكون وقعها على مسامع المرء كالصاعقة تفرض عليه إعادة النظر في الكثير من مواقفه وسلوكياته إزاء القيم الإنسانية المختلفة. ويبدو أننا في حركة التحرر الديمقراطي ـ الوطني في كردستان مكلفون بإبداء المبالاة والإهتمام اللازم بالحادثة التي وقعت في الليلة التي تربط الأول بالثاني من شهر شباط 2006. فالحدث هو إلتحاق الرفيقة فيان بقافلة شهداء الحرية. من خلال عملية إستشهادية نفذتها على أساس الإيمان التام بضرورة إستنفار وإستخدام كل طاقة موجودة. مهما كانت الصعوبات والنتائج في سبيل حماية القيم والدفاع عنها ضد كل الهجمات مهما بدت قوية وشاملة، وتأتي في مقدمة هذه القيم قائد وموجه حركتنا، هوية الكرد الحر الجديدة، القائد APO.

يقال إن الكتابة هي محاولة للتعبير عن الحدث بالشكل الأكثر جمال وإبداعا، ولكننا هنا لسنا بصدد التعبير عن فيان وما قامت به من أعمال بما فيها العملية الأستشهادية الأخيرة، بالشكل الأكثر جمالا، لإننا بالتأكيد سنكون عاجزين عن ذلك. قد تكون محاولة للتعبير عن مدى فهمنا للرسالة التي تركتها، أو عن أحاسيسنا وعواطفنا ومواقفنا تجاه هذا الزخم النضالي ونكران الذات الذي يتمثل في شخصية فيان. ونعتقد إنه ما من كاتب كائنا من يكون قادرا على التعبير عن فيان بشكل أجمل وأحسن من ما عبرت عنه هي عبر حياتها النضالية المليئة بالتضحية والنشاط والعملية التي أقدمت عليها. بإختصار لقد عرفت فيان أكثر من الكل أن تتعامل مع نداء الحرية. إن صورة التي من الممكن أن نرسمها في مخيلتنا هي جريها المتسارع نحو الحرية بدافع واعي وإنتخاب حر، وقد أدركت إنه من الخطأ حساب التضحيات إزاء هذا النداء، لإنه يمثل ملحمة الوجود الإنساني وشوقه الأبدي. إنها تمكنت رغم تجاربها المحدودة أن تعي ضرورة العيش الحر سواء كان على المستوى الذاتي أو الفردي أو المجتمعي وبعيدا عن النزعات الفردانية الضيقة تمكنت من إيجاد الرابط الإيجابي بين حرية الذات والفرد والمجتمع، بناءً على هذا الوعي لم نجدها يوما تحسب التضحيات، كان الإقدام والإندفاع البعيد عن أية تحفظات يرسم الخط البياني في حياتها الثورية. إنه إلتحام مع الأهداف السامية والقيم المثلى والقيام بما يترتب على ذلك من مسؤوليات دون أدنى تردد. إن العملية التي نفذتها هي تعبير عن إيمانها بحقيقة(( العيش الحر أو الموت الكريم)) إنه إنتخاب إرادي وواعي لموت شريف وكريم ورفض لملامح حياة تفتقر إلى الحرية. القائد أبدى في مناسبات عديدة موقفه المعارض لمثل هذه العمليات. ونحن في حركة الحرية نعتقد إنه بالإمكان مواصلة النضال من أجل الأهداف السامية عبر الوسائل والأساليب النضالية الأخرى. ونحن على ثقة تامة بأن الرفيقة فيان كانت تملك من المواهب والإمكانيات ما يؤهلها لخوض النضال بالأساليب الأخرى ولكنها إختارت هذا النوع من لعمليات ولم يبقى أمامنا رغم كل التحفظات إلا إبداء الإحترام أمام إختيارها النبيل هذا. من المؤكد إن موقفها هذا لم يأتي نتيجة عجز أو إستياء، وما تركته من أثار يثبت ذلك. بل إنه موقف رافض لكل الممارسات التي تتعرض لها القيم الوطنية والديمقراطية في وطننا، هو رفض لعالم يبرر ما يتعرض له الكرد من إزالة وإذابة قومية، وقبل كل شيء رفض لحالة الأسر التي يتعرض لها القائد APO، رفض معايشة عالم يحاول حجب شمس الحرية، وإنتقاد جذري للسطحية التي نتناول من خلالها مهامنا الثورية، إنها محاولة صادقة ونبيلة لكسر الوضع القائم والركود والمراوحة في المكان لتفتح الباب واسعاً أمام الإندفاع والحيوية في الممارسة النضالية.

إنها رسالة واضحة مفادها إنه مهما بدت الصعوبات والتحديات فإنه ما من قوة مهما بلغت جبروتها قادرة على إعاقة مسيرة الحرية وتصفية آمال شعب مصّر على الإنعتاق. الإعداء يحاولون دائما أن يفرضون علينا فكرة متخلفة مفادها الإقتناع بأننا قمنا بكل ما يمكن القيام به وأستنفذنا كل الأمكانات والطاقات ولم نحرز النصر. ولكن فيان بما قامت به من عمل تؤكد إنه لم نستنفذ بعد طاقاتنا وإننا مازلنا نملك أسلحة قوية بإمكاننا أستخدامها في الوقت والمكان الذي تريد نحن، إي الإعداء بإمكاناتهم المادية والتقنية قد يتمكنون من السيطرة على بعض المواقع ولكنهم سيظلون عاجزين تماما عن إمكانية السيطرة على أرواحنا وأفكارنا، فإرتباطنا بالقائد وإلتزامنا بقضيته وشوقنا إلى الحرية، بعبارة أخرى ألتحامنا مع القيم التي تشكل خصائص إنسانيتنا ستدفعنا إذا إقتضى الأمر إلى التضحية بأرواحنا وإستخدامها كأسلحة. ستبقى كل تدابير الأعداء المادية والتقنية عاجزة عن التصدي لها. لإن تعاملنا مع هذا السلاح يدخل في مجال حريتنا الخاصة التي لا ينازعنا فيها أحد.

إبنة الجنوب الرفيقة فيان حاولت بنجاح في ربيعها الرابع والعشرين، إحياء عادة المقاومة المتأصلة في حزب العمال الكردستاني، عادة صنع الحياة من الموت. تمكنت بشرف من أن تتحول إلى حلقة في السلسلة المقدسة التي تضم مظلوم وزيلان وسما وغيرهم من خيرة بنات وأبناء هذا الوطن. إذا كان الموت يعني النهاية أو الفناء فهل يمكن أن نسمي هذه الحادثة بالموت؟. بالطبع لا، من الناحية النظرية أقدمت رفيقتنا على عمل تكون فيه نسبة النجاة معدومة. فهي ليست إذا حادثة إنتحار، بل هو عمل واعي تكون نسبة البقاء فيه على قيد الحياة معدومة. وبالتالي فهو الموت. ولكن عمليا فالأمر على النقيض تماما. لأنها تركت رسائل تنضب بأثمن أيات الحياة. تتضمن توجها مستقبليا وكشفا عن حقائق ما أحوجنا للإقتداء بها. إنها حاضرة وحية تؤثر فينا أكثر من أي وقت مضى. تفرض وجودها على سلوكنا اليومي، في هذه الحادثة تطغى ملامح الحياة على الموت وتظهر فيان بيننا هامة عالية نستمد منها ضرورات إلتزاماتنا ومسؤلياتنا النضالية.

شأنها شأن الرفيقة زيلان لم تقابل القائد ولكنها عاشته حتى النخاع، وقد كان هدفها الوحيد. في الحياة التعرف على حقيقة القيادة وترجمة ذلك في الحياة العملية. وفي الوقت الذي كانت فيه صاحبة موقف حاسم وصلب ضد مواقع الخيانة والتصفية في الحركة كانت في الوقت نفسه تتميز بدينامية التفاعل الحر والواعي مع البارادغما الجديدة، كانت في سعي مستمر لتأهيل ذاتها للتمكن من مواكبة الجديد على أساس التحليلات التي قدمها القائد حول الإنسان والمجتمع والطبيعة، لقد عبرت عن ذلك في تقييمها للوضع التنظيمي في الإجتماع الموسع للمجلس التنفيذي الذي عقدناه في خريف عام2004 حين قالت: ما معناه إنه من الصعوبة بمكان بناء تنظيم على أساس الباراديغما الجديدة للقائد لإنها تعني ثورة وبالتالي يتطلب الأمر إمتلاك قابلية ومرونة للقيام بالتغيير ونضال إيديولوجي واسع النطاق. وبالتالي فإنها حاولت أن تفصح عن درجة إدراكها للمرحلة الجديدة من نضالنا وأن تطوير النضال يمر عبر الفهم الأصح لما قدمه القائد من تحليلات بدلا من الخوض في المسائل العملية أو التناول السطحي لمصادر القضايا التي تعاني منها الحركة، لقد إزدادت معرفتنا بها في الأجتماع العام الأول لمؤتمر الشعب الكردستاني في خريف عام 2003 . وقد إنتخبت للمجلس التنفيذي، في تلك الفترة كانت مجموعة الخيانة والتصفية تعبر عن مواقفها دون تحفظ كانت من أصعب المراحل التي مرت بها حركتنا، ولكن الرفيقة فيان رغم الضبابية والتشوش الذي ساد على المناقشات. ورغم شبابها وقلة تجاربها، إلا إن الإيمان بالثورة والقائد كان واضحا وكانت واثقة من خلال هذا الإيمان بذاتها إلى درجة إنها وقفت موقفا مبدئيا، وخاصة في الإجتماع الأول للمجلس التنفيذي، ضد التصفويين شدت إنتباهنا جميعا وفرضت بذلك إحترامها منذ الساعات الأولى. كسلوك ثوري مبدئي وبعيدا عن أي تحفظ شخصي أبدت معارضتها لكل الأفكار والمقترحات التصفوية التي عملت تلك المجموعة على فرضها في حركتنا. وبذلك تكون قد عبرت من خلال أكثر للمواقف مبدئية عن إستقلاليتها.

كان للخونة أساليبهم الخاصة في التأثيرعلى الكوادر وإبعادهم عن الخصائص النضالية وكانوا يعتمدون في هذا المجال بالدرجة الأولى على الأمور المادية والغرائزية. الساحة العراقية وبعد سقوط نظام صدام تحولت إلى وسط مهيأ لأن تنمو فيه نزعات الخيانة والإرتداد. وكانت الساحة التي تمركزت فيها الخيانة في حركتنا أيضا. إن الخونة من أمثال فرهاد وبوطان وشلتهم وزوجاتاهم أختاروا تلك الساحة كقاعدة لتجريد حركتنا من خصائصها النضالية وكانوا يهتمون على الأغلب بالأعضاء الشباب سواءً من النساء أو الرجال في الحركة لتنفيذ مخططاتهم محاولين إبعادهم عن ساحة النضال وأشغالهم بالأمور الرخيصة والتافهة. أزاء ذلك عجز الكثير من الكوادر من الجنسين عن حماية أنفسهم وإنجروا إلى المستنقع بأكثر الأشكال إنحطاطا وقذارة رغم إن بعض منهم كان يمتلك خبرات وتجارب طويلة، وقد حاولوا فعل ذلك مع فيان أيضا خاصة وإنها كانت تتمتع بالكثير من الإمكانات التي إستهدفها الخونة، الشباب والأندفاع والحيوية، أي إمتلاك القدرة والقابلية على التقدم والتطور. كانوا يحاولون التأثير عليها من خلال الإمكانات المادية والدعاية الفكرية. كانوا مصرين من خلال ذلك على إبعادها عن خط القيادة والثورة، ولكن كل محاولاتهم هذه باءت بالفشل ولم يحصلوا سوى على السخرية من تصرفاتهم هذه.

هنا لا بد من أن نذكر الحقيقة التالية: في الوقت الذي أثرت الحوافز المادية والغرائزية على الكثير من النساء اللواتي سمتن أنفسهن بدعاة حرية المرأة)) وحولتهن إلى أمان في يد بعض الرجال المتخلفين رغم التجارب والعناوين، وقفت فيان موقفا حرا أصيلا لا يقبل المساومة. فالثورة والحرية كانتا عندها عبارة عن سلوك متأصل. جزء من كيانها ولهذا لم تتردد في إظهار ردود الأفعال اللازمة في الظروف المطلوبة تجاه المواقف التي تتعامل مع حقائق الثورة والحرية سواءا كان من الناحية الإيجابية أو السلبية. هذا التلاحم العضوي كان يدفعها دائما إلى بذل الجهود لفهم القائد والإصرار دائما على التمركز في مقدمة جبهة النضال. وأيضا إلى التعرف على الخيانة وإتخاذ أكثر المواقف راديكالية تجاهها.

لقد أدركت بعمق ما معنى أن تكون ثورية وبذلك تمكنت من إحراز التفوق السايكولوجي على أصحاب نزعات العودة إلى المستنقع فكانت تسخر منهم، لإنها كانت تختلف معهم على تعريف الحياة، فالحياة بالنسبة لها هي نضال مستمر من أجل نضال الحرية مهما كانت العوائق.

تعتبر عملية الإعتراض على القيام بالمهام التي يوكلها التنظيم عادة سيئة يحاول الثوار تجنبها في حياتهم العملية. حيث إنه لا بد أن نكون مستعدين للقيام بما يكلفنا به التنظيم، خاصة وإنه يعدد الأطار الذي يجمع ويوجه الطاقات الأكثر ثورية ونشاط في الوطن. وبالتالي نعمل دائما على أن يكون تعاملنا مع المهام إيجابيا ونظرا للمؤهلات النضالية العديدة التي كانت تتمتع بها الرفيقة فيان لذا كان يتم إعطائها أدوار مهمة في العملية التنظيمية، كانت أعضاء المنسقية العامة الجديدة، وتم إختيارها عضوة في لجنة إعادة بناء الحزب ب ك ك وأختيرت للقيام بنشاطات في مختلف المستويات وعلى أكثر من صعيد، ولكنها حاولت دائما الأبتعاد عن الصلاحيات والعناوين، إعترضت على مهام رفيعة المستوى في التنظيم بعد أن تم ترشيحها، أي إنها إعترضت، ولكن الإعتراض هذا لم يكن سلبيا لإنها إعترضت على وظائف كانت تعتقد إنها ستؤخرها عن مقدمة العمل الثوري، وكأنها في سباق مع الزمن تأبى إلى أن تكون في مقدمة النضال في أكثر الجبهات نشاطا وفاعلية، حيث قوات الدفاع الشعبي ….فهي لم تنتظر الربيع للدخول في المرحلة العملية لإنها ترفض أن تعيش عاما جديد من المؤامرة والقائد أسيرا. إنها ترفض إلا أن تكون في المقدمة.

إزاء ذلك ماذا علينا أن نفعل ؟ نعاتب أم نعتذر أم نعمل على فك رموز الرسالة؟ يبدو أننا فقدنا حقنا في توجيه العتاب والأنتقادات أمام ما قدمته فيان من تضحية ونكران الذات. ولكننا مجبرون على الأعتذار والأعتراف بأن مستوى إدائنا النضالي لم يكن في المستوى الذي يرضي إندفاعها وحيويتها ومقايسها النضالية. ولكن المهم هو درجة فهمنا للرسالة التي تركتها، فالعملية قبل كل شيء نداء الوطن الواحد. هي تحطيم للحدود المصطنعة والنزعات الكانتونية، هي برنامجا واقعي للوحدة الوطنية. وهي في نفس الوقت أنذارا لكل المناضلين وأعضاء الحركة بأن ما نقوم به من نشاطات وفعاليات هي دون المستوى الذي يؤهلنا للتصدي للهجمات المعادية ومواجهة التحديات الموجودة، وهي بعيدة عن إمكانية تقديم المساهمة المطلوبة في حملة حرية القائد … وبالتالي لا بد من إعادة النظر في مستوى إدائنا من خلال محاكمة صادقة وعلمية والأنتقال إلى المواقع التي تفرضها أهدافنا السامية. أنها تعريف واضح للبراديغما الجديدة وهو عدم القبول بأقل من وطن تسوده الحرية والمساواة. عدم الرضوخ للأمر الواقع، وعدم القبول بما يتعرض له القائد من ممارسات وحشية، ورفض كل التجاوزات التي تتعرض لها القيم الوطنية والديمقراطية في وطننا. وأن هذا الرفض يجب أن يخرج عن كونه سلبيا ليتحول إلى ممارسة عملية يتم فيها إستنفار كل الطاقات دون أدنى تردد. أنها صورة المرأة الحرة التي لم تكتفي فقط بالتساوي مع الرجل في كل الميادين بل تتجاوز ذلك لتصبح قدوة وطليعة في النضال لمعالجة أكثر القضايا حسما وأهمية. وفي الوقت الذي تكون فيها القوة النسائية في حركتنا مكلفة بإظهار موقفاً إيجابياً واضح للإقتداء بها وإتخاذها مقياسا أساسيا في تكوين الشخصية الحرة المستقلة المنتجة. يكون الرجل في الوقت نفسه مرغما على ترك الموروث الثقافي البالي والقائم على أساس مجتمع سيادة الرجل. في عملية الرفيقة فيان يظهر مدى عقم الموروث القديم أمام الألتحام والتعامل الواعي مع المهام التاريخية التي تظهرها المرأة الحرة والمتمثلة في شخصية فيان.

أننا سنزداد أرتباطا بقيم الوطن والثورة والحرية والقائد كلما كبرت حجم التضحيات التي نقدمها في سبيل هذه القيم. وأن هدفنا الأساسي ومبرر وجودنا في هذه الحياة سيكون مرتبط عن قرب بمدى سيرنا في طريق شهداء الحرية. ونعتز ونفتخر بأننا أعضاء حركة ضمت فيان في صفوفها ونفخر بأننا رغم كل نواقصنا رفاقا للشهيدة فيان.

نقلاً عن موقع “مؤسسة رستم جودي”

http://rustem-cudi.com/

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *