بوتان زيباري
في فضاء السياسة المُلتهب، حيث سوريا باتت رحى تدور على أجساد الأحلام، يرتسم الوجود الكردي كلوحة من التحدي الصارم والأمل المستدام. لقد غدا المشهد السوري، بما حمله من وعود كاذبة وعهود منكوثة، شاهداً على لعبة أمم لا تقيم للضعيف وزناً، ولا تُبقي للوعود وفاءً. وفي هذا المضمار، تتبدّى الدعوات إلى التحالف التركي-الكردي-العربي كمفتاح سحريّ لسلام أبديّ، لكنّ هذا المفتاح لا يدور في أقفال الواقع إلا بمداد الثقة التي جفّت، وبصيغة الشراكة التي لم تُصغ بعد. أنقرة تنادي بالاندماج الكامل، مُطلقةً نداءها لمن يمم وجهه شطر الشام، زاعمةً أن العائدين إلى حضنها وحضن دمشق هم الظافرون، وأن من ينبذون هذه الرؤية هم المُنجرون وراء أوهام عابرة وأطماع زائفة.
غير أنَّ لغة الأرض، لغة روج آفا، تنطق بغير هذا البيان. فالتغلغل في المستنقع السوري ليس خياراً للانسحاب اليسير، بل هو قيد مُحكم لا يفكّه إلا تنازل الكبار أو تفاهمهم المرير. إنَّ التموضع التركي في الجغرافيا السورية، وإن جلب مكاسب نسبية أو مؤقتة ظنّتها القيادة نصراً، يبقى رهين حسابات دولية مُعقدة. فبينما يُشار إلى إسرائيل ودول الخليج كأطراف ذات مكر ودهاء، تجد تركيا نفسها تضع خططاً مضادة في خضمّ هذه الألاعيب، لكنّ الكاسب الأكبر يظلّ ذلك الذي يستجيب لنداء واشنطن ويُنفذ توجيهاتها بحرفية التابع المُطيع. فما لم تُحل قضايا المنطقة الكبرى، كملف غزة مثلاً، ستبقى سوريا مسرحاً للصراع، حيث يُشكل الدور التركي ومسألة كردستان سوريا بُعدين متلازمين للمشكلة التي لن تجد فكاكاً.
في قلب هذا التشابك، تتجلى مطالب القيادة الكردية المتمثلة في الإدارة الذاتية والبحث عن نموذج يُحاكي الفيدرالية في شمال العراق؛ إنه مطلب الاستقلال النوعي الذي لا يقبل الذوبان في نسيج جيش دمشق، بل يصرّ على البقاء ككتلة عسكرية وسياسية مُستقلة بذاتها، في إطار تفاهم أوسع. هذا الموقف يتأكد مراراً وتكراراً، خاصةً في اللقاءات الهامة التي تعقدها قيادات قسد مع المسؤولين الأمريكيين، حيث يبدو الموقف الأمريكي يميل بوضوح إلى تأييد الحقوق الكردية، حتى على مستويات القرار العليا. إنَّ كلّ ما يتعلّق بمصير شرق الفرات وشؤون قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لا يُحسم في مكاتب المنطقة، بل يُرسم في دهاليز الولايات المتحدة الأمريكية، وفي حلقة ضيقة تتقاطع فيها المصالح الأمريكية مع رؤية إسرائيل الإقليمية، التي هي المحور الذي تدور حوله سياسات القوى الغربية في الشرق الأوسط برمته.
وفي هذا السياق، تظهر دعوات المصالحة الداخلية التركية ومحاولات الاستناد إلى شخصية مثل عبد الله أوجلان كمحاولة لخلط الأوراق، لكن هذه الدعوات تبدو جوفاء ما لم تُترجم إلى فعل حقيقي على الأرض، يُعيد الحقوق الدستورية للأكراد، ويُفعّل مسارات التفاوض المُعلقة، ويُطلق سراح السجناء السياسيين. إنَّ الإصرار على إغفال مطالب الشعب الكردي وتجاهل قياداته المنتخبة أو حتى رموز نضاله، لا يزيد المشهد إلا تعقيداً، ويُطلق العنان لغضب شعبي وإقليمي واسع، يتجاوز حدود البلاد، ليجد صداه في أوساط الملايين من أكراد العالم الذين يُتابعون المعركة بأساليب المقاومة الحديثة، من حرب نفسية إلى معارك إعلامية، مدركين أنهم ليسوا مجرد جامعي ثمار، بل قوة منظمة ذات طموح مستحق. وفي الختام، تبقى مسألة شرق الفرات، ومستقبل قسد، معضلة لا تُحل وفقاً للأماني التركية، بل وفقاً لموازين قوى دولية ترجّح كفة اللاعبين الذين يملكون القدرة على فرض إرادتهم في الساحة السورية المُحتدمة.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=77626