ماهين شيخاني
كان مخيم ( برده ره ش )يرقد بين جبلين صامتين كحارسين منسيّين: أحدهما من الشمال الشرقي، يختزن صدى الرياح الباردة، والآخر من الغرب، رمليّ جاف، كأنّه جدار يفصلنا عن الموصل، عن وطنٍ تركناه يتكسّر خلفنا… قطعةً تلو أخرى.
يقع المخيم على بُعد سبعين كيلومتراً من دهوك، وثلاثين من الموصل، غير أن المسافة الفعلية بيننا وبين الاستقرار كانت أبعد من أيّ رقم. لم يكن المخيم وليد اللحظة، بل ذاكرة طُمرت بالرمال ثم أُعيد فتحها. في عام 2014، ظهر المخيم لأول مرة كمأوى للنازحين العراقيين الهاربين من جحيم “داعش”. وبعد تحرير الموصل، عاد الناس إلى قراهم، وأُغلق المخيم عام 2017… أو هكذا قال لنا أحد موظفي “مؤسسة بارزاني الخيرية “، التي تتولى إدارة المكان حاليّاً.
اليوم، ها نحن نُعيد فتحه نحن… المنفيين الجدد.
كان عليّ أن أجد خيمة لي ولعائلتي. أعطيتُ أحد المعارف بطاقتي الشخصية ليُسجّل اسمي لدى اللجنة المكلّفة. الفوضى على الطاولة كانت كمن يقاتل على رغيف. تكدّس الناس، وتشابكت الأيدي قبل الأسماء.
لم يكن صاحبي ( محمود ) ماهراً في إدارة الأزمة، فسارع إلى إعطاء البطاقات لقريبه، الذي بدوره سلّمها للجنة، ليحصل بسهولة على أربع إيصالات لأربع عائلات… باستثناء اسمي. تُرك رقمي مرميّاً في زاوية الطاولة.
اضطررت أن أواجه اللجنة بنفسي، بجسدي المُتعب، ونفسيتي المهترئة. بعد جهدٍ وتأفّف، وجدوا اسمي، وسلموني إيصالاً كتب عليه: C20.
سألت اللجنة:
– “أين يقع هذا القطاع..؟.”
فأجاب أحدهم، وهو لا يرفع رأسه:
– “لا نعلم. نحن فقط نوزّع الإيصالات. هناك فريق آخر يركّب ويرقّم الخيام. عليكم أن تبحثوا بأنفسكم.”
كانت حالتي الصحية لا تسمح لي بالتجوال في أرضٍ وعرة، لكن ما باليد حيلة. طلبت من ابنتي ” فينوس ” مرافقتي. كنتُ أريدها بجانبي… ليس فقط لتحملني، بل لأنها تشبه والدتها الراحلة ولتفهم أختها الصغرى، وتكون صدى لضعفي، وسنداً لغضبي، ورفيقةً في لحظة الانهيار.
خرجنا معاً نبحث عن خيمتنا الجديدة. الأرض لم تكن أرضاً، بل مزيج من نتوءات وشقوق وهضاب صخرية، وكأنّها مرآة للخراب الذي في داخلنا. تنقّلنا بين القطاعات كمن يبحث عن شبح. أرقام الخيام مكتوبة بخط كبير على القماش الأبيض، بعضها واضح، وبعضها تلاعبت به الريح والغبار.
وبعد ساعةٍ من التيه، وصلنا إلى المنطقة المفترضة. وجدنا أربع خيام مصطفّة، لكن بلا أرقام، والبقية غير مكتملة.
عدنا إلى الإدارة وطلبنا استبدال رقم الخيمة. أعطونا إيصالاً جديداً: C53.
هكذا، صار C53 رقم خيمتنا… منزلنا الجديد، وبطاقة تعريفنا. بدونه ، لا نحصل على ربطة خبز، ولا قنينة ماء، ولا حتى اعتراف بوجودنا.
بدأت رحلة نقل الأمتعة. كانت الخيمة بعيدة. كنت أبحث بعينيَّ عن سيارة تُساعدنا. وفجأة، وقع بصري على سيارة من نوع ” فوكس”، خُطّ على زجاجها الخلفي بخطٍ يدوي: ” الدرباسية “.
انفرج قلبي كأنّي التقيتُ بصديق قديم.
اقتربت من السائق، رجلٌ أنيق يرتدي “كلابية” مطرّزة، كأنّه خارج من حفلة زفاف:
– “حضرتك من الدرباسية..؟.”
– ” لا، من إحدى قراها، لكنني كنت أعيش في تل تمر… وأنت..؟.”
– “أنا من الدرباسية.”
– ” تفضل، كيف يمكنني مساعدتك..؟.”
– “معي عائلتي وبعض الأغراض الثقيلة. إن كان بمقدورك نقلنا… نرجع لاحقًا للباقي.”
– “على الرحب والسعة، لكن لا أستطيع العودة مرة ثانية. أبحث عن أقاربي من تل تمر، وهم في نفس القطاع.”
– ” لا بأس… حسبتك تعمل بالأجرة، وكنت مستعدًا للدفع.”
مجرد اسم المدينة على لوحة سيارة كان كفيلاً بأن يربطك بالوطن.
ركبنا: أنا، مسعود، ووالدته. تركنا البنات لحراسة الأغراض. دقائق فقط ، وكنّا أمام خيمتنا. أنزلنا الحاجيات وبدأنا أنا المريض وأم مسعود نصب الخيمة في العراء, والعرق يتصبب من كل جسمي , وأم مسعود تشعل سيجارتها بين فترة وأخرى , حقيقةً كرهت نفسي لم حل بنا ..؟.
الخيمة كانت ترتكز على قاعدة إسمنتية بالكاد تكفي، وخلفها ثلاثة أمتار هي كلّ ما لدينا من “خدمات”: مطبخ مشترك، مرحاض من صفيح، لا ماء، لا كهرباء، لا خصوصية… ولا شيء يوحي بأننا في “مكانٍ للعيش”.
أثناء عودتي الأخيرة لحمل ما تبقّى، كان العرق يتصبب مني كالسيل، والتعب يطحن عظامي. على الطريق الرملي، استوقفتني سيارة حديثة. سائقها كوردي، يجلس إلى جانبه رجل وامرأة أوروبيّان على الأرجح. نظر إليّ السائق بسؤال مباغت، صيغته باردة:
– “هل هناك مسيحي نازح هنا..؟.”
كان صوته مستفزاً، لا يحمل لباقة، بل يعرّيني كأنّي قطعة من المعرض الإنساني.
نظرت إليه باستخفاف، ثم إلى مرافقيه الأنيقين وقلت:
– “لا… لم أجد أحداً.”
ثم أشرتُ إليهم بأصبعي وقلت بسخرية لاذعة:
– ” قل لهم، هؤلاء جميعاً مسيحيون… نحن كلنا نازحون.”
وتركتهم دون أن ألتفت. أكملت طريقي أتنفّس الألم.
في تلك اللحظة، أدركت أن كل ما قرأناه عن حقوق الإنسان، وكلّ ما كُتب في الميثاق العالمي… لا يتعدّى كونه حبراً على ورق.
وكأنّنا نعيش في زمن معلّق، لا يقين فيه، سوى الانتظار.
- ماهين شيخاني .
- جزء من رواية : “مدينتان ونصف وطن… في زمن النزوح”
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=76110