رواية الاصطدام.. بول غاسنييه

وليد الأسطل 
هذه الرواية -المدرجة على القائمة الأولى لجائزة غونكور لهذا العام- متجذرة في قضايا المجتمع الفرنسي. يتتبع بول غاسنييه رحلة ابنٍ يحزن على الوفاة المأساوية لوالدته في حادث سير. في يونيو 2012، تركب والدة الراوي، البالغة من العمر 54 عامًا، دراجتها متجهة إلى العمل، فيصدمها شاب يبلغ من العمر 18 عاما يقود دراجة نارية غير مرخصة، وهو يؤدي حركة بهلوانية بسرعة 80 كم/ساعة. الشاب اسمه سعيد، لا يملك رخصة قيادة، استعار هذه الدراجة النارية بعد تدخينه القنب. تدور أحداث رواية “الاصطدام” في كروا روس بمدينة ليون، وهو حيّ معروف بتنوعه الحضري.
ترصد هذه الرواية كيف يمكن لهذه المأساة أن تصبح مادة سياسية. بل إنها تتساءل عن التوترات السياسية والاجتماعية والهويتاية التي تُمزّق فرنسا. يتحول الحادث إلى تصادم بين جزءين من المجتمع. يسعى بول غاسنييه إلى فهم كيف كان من الممكن أن يصطدم مساران متوازيان. تلامس الرواية بوضوح الجوانب الشخصية، لكنها تُعالج مواضيع أخرى دون شك.
تعلن رواية “الاصطدام” La Collision سريعا عن طموحها: رفض استخدام هذه الحادثة لأغراض انتخابية. في الواقع، منذ الصفحات الأولى، ينتقل بول غاسنييه من مشهد الحادث إلى مشهد رئاسي، مشهد عام 2022: يُلهب المرشح حماس الجمهور العنصري حين يصف الفرنسيين من أصل مغاربي وإفريقي بالحثالة…إلخ. تتجلى العبارات العنصرية بقوة، بينما يرددها جمهورٌ مُتحمسٌ ومتعصب. ندرك كيف يُمكن أن تُصبح الحادثة ذخيرةً خطابية. فالاستياء والغضب والحزن يُمكّنان من القدرة على أسر الجماهير بعباراتٍ مُعدّة مسبقا يفهمها الجميع.
تُشرح الرغبة في الانتقام، وأوهام العنف، والانطواء على الذات. يكشف الكاتب هذه العواطف ويوضح جوهرها. عواطف قابلة للاستغلال السياسي. وهكذا تُصبح رواية “الاصطدام” قصةً سياسيةً بامتياز. ثم يستكشف بول غاسنييه قوة جاذبية الصيغ الجاهزة التي تُلهم الجماهير وتتسلل إلى كل شقوق الرغبة في الانتقام.
بالتزامن مع العبارات التي رددها المرشح على المنصة يستشعر الراوي صدى مُرعبا في هذا الخطاب. بناءً على تجربته الشخصية، قد يُوافق على هذه الكلمات، فهو في النهاية يندرج ضمن فئة من فقدوا عزيزا على يد هؤلاء “الحثالة”. قد يُوافق على تحويل حادثة مقتل الأم إلى خطاب يهدف لإضفاء الشرعية على رؤية متطرفة للأمن والهوية. لكن، بخبرته الصحفية، يُدرك أن ما يحدث هو إعادة تدوير المآسي وجعلها مواد أيديولوجية. وبعيدا عن التقليل من معاناته واستيائه، يُظهر كيف تتغذى التيارات المتطرفة في الطيف السياسي على هذه القصص الإخبارية، مُضخمةً إياها لاقتراح ردود فعل جذرية. لا ينبغي أن تُمثل قصته الشخصية مرآةً لخطاب وطني. إنه يلعب بورقة الشفافية، ويُفهَمُ من رد فعله أنه يقول بكل وضوح: لا يُمكن، ولا يجب، أن يُستغل ألمه في المجال السياسي. ثم يُشكك في هذا النوع من الخطاب الذي يسعى إلى تغيير المجتمع بشكل جذري.
“الاصطدام” روايةٌ مفعمةٌ بالتوتر والوعي وتحليل كيفية استيلاء المتطرفين على الإعلام. من المرجح أن تُصبح كل مأساة شخصية رمزا سياسيا: يتم نزعها من سياقها، وتضخ في الرأي العام من خلال خطاب مُصقول بدقة يخلط بين انعدام الأمن والهجرة والتدهور الاجتماعي. وهكذا، يفلت كل خبر من أي غموض، ويُقدّم نفسه كمرآة للواقع. تُغذّي القصة الحميمة والشخصية خطابا وطنيا قائما على القانون والنظام. لاحظت أن خطابات دونالد ترامب قائمة على الآلية ذاتها. لا يهتم المتطرفون بفهم الأسباب الهيكلية لهذه المآسي. إنهم يستولون عليها، ويعيدون تدويرها، ويدّعون أنها دليل على تراخي النظام.
في رأيي، تتميز رواية “الاصطدام” بحُكمها السياسي الصائب، الدقيق والعميق. من خلال الملف القانوني المحيط بوفاة والدة الراوي، يسعى بول غاسنييه لفهم كيف ولماذا. ما هو الفراغ المؤسسي الذي سمح بهذا التحول؟ على الرغم من الصدمة التي تعرض لها بول جاسنييه الذي ماتت والدته بنفس الطريقة التي توفيت بها السيدة في روايته، لا يوجد في “الاصطدام” أي شيطنة للفرنسيين من أصول مغاربية أو إفريقية. المعلومات التي جُمعت تُعقّد التحقيق: إعارة دراجة نارية سريعة جدا، والحشيش الذي دُخّن قبل الحادث بوقت قصير، وعدم وجود ترخيص، وتقصير الرقابة القضائية.
يجدر أيضا الانتباه إلى شكل الرواية، فهو مزيج من العمل الصحفي والروائي. تُقدّم رواية “الاصطدام” نداءات استغاثة، ومقتطفات من تقارير الشرطة، ووصفا لمقاطع فيديو تُجسّد الفجوة بين ما يشاع وبين التجربة المُعاشة. وهكذا يستفيد القارئ من وضوح أكبر، ويجد المؤلف نفسه مُزوّدا بقوّة دافعة من الشهادات. في الخلفية، يبرز التأثير المُتعمّد: حرص وسائل الإعلام والسياسيين على تحويل كل اعتداء أو جريمة يرتكبها الفرنسيون من أصول مغاربية أو إفريقية إلى تشخيصات وطنية. هذه الطريقة في العمل تبتلع أسبابا ملموسة من أجل الظهور في الساحة السياسية. يُصبح تعقيد الخبر وتداعياته جوهر الرواية.
في هذه الفترة من الديمقراطية المرهَقَة، احتاج بول غاسنييه إلى شجاعة كبيرة ليعود إلى تفاصيل وفاة والدته. فمن خلال مهنته كصحفي، يُدرك مدى حساسية الألم وانفتاحه على الخطاب المتطرف. يُقدّم قصته كمثال يُشكّك في نوايا الكثير من الإعلاميين والسياسيين. لذا، تُعدّ رواية “الاصطدام” روايةً شجاعةً للغاية. فهي تُعيد فتح الجرح، تتخلى عن سهولة الغضب، تختبر القناعات، تُعرّض كاتبها لمخاطر سياسية، وتواجه احتمال سوء الفهم العام. يستبعد بول غاسنييه التجاوزات العاطفية في مواجهة المأساة، مُقايضا الغضب بدقة الحقائق. يُتيح لنا هذا النص فهم معنى العيش في مجتمع مُمزّق، مُشبع بشعور دائم بالظلم، ومُستغلّ من قِبل الروايات السياسية لأغراض انتخابية. يدعو الكاتب الفرنسيين لئلا ينخدعوا، لأن يميّزوا بين الغث والسمين.

 

Scroll to Top