السبت, يناير 11, 2025

سري كانيه/ رأس العين.. قربانٌ كردي للتاريخ والجغرافيا

عبد الحليم سليمان- صحافي

مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م.

تعدّ مدينة سري كانيه Serêkaniyê(رأس العين) آخرَ تجمعٍ سكانيّ كبير للكرد في السهل الغربي من الجزيرة السورية- محافظة الحسكة-، وتتبع لها عدد من البلدات والنواح والقرى المختلطة عرقياً ودينياً، وتفصلها عن بلدة سلوك وتل أبيض سهول واسعة وتقلّ الكثافة السكانية في هذه المسافة داخل الأراضي السورية.

شكّلت المدينة حاضرة ومركزاً لعدد غير قليل من الحضارات والممالك التاريخية، كالحضارة الحَلفيّة والميتانيّة والآراميّة وغيرها وصولاً إلى العصر الإسلامي، لكن كان بادياً إخفاء هوية المدينة الميتانية وتأثير حضارتها على عموم المنطقة، التي وصلت حتى الساحل السوري في أوغاريت وأطراف كركوك، من المعارف العامة في سوريا لاسيما في الكتب المدرسية ومدارك السوريين عموماً في ظل أيديولوجيا حزب البعث الحاكم رَدحاً من الزمان.

كانت لينابيع المدينة التي بلغت عددها بعدد أيام السنة بحسب المصادر التاريخية والتي بدورها اعتبرت منبع نهر الخابور الهادر حتى أواخر التسعينات من القرن الماضي، أهمية كبرى في تشكيل المدينة وتحولها لمركز بشري هام على مرّ العصور وصولاً إلى السكن المعاصر لها الذي يزيد عن مئة وخمسين سنة، فالمدينة تحمل إرثها المتنوّع منذ عقود، لا بل قرون، وإن كان الطابع الكرديّ فيها متجذّراً وأعمق ومستمر حتى الآن حيث أصبح السمة المميزة لها أنها متعددة المكونات والعيش معاً أقوى عناصر استمرارها.

فالمدينة التي كانت تابعة لإمارة الملّان-الملّية الكردية التي أصبحت بزعامة إبراهيم باشا المللّي أواخر عهود السلطة العثمانية واستقر فيها الشيشان بعد موجات هجرتهم من القوقاز فانتقلوا إليها بعد بلدة السفح الواقعة قرابة 15 كم جنوبي سري كانيه ثم كانت ملجاً للأرمن والسريان الهاربين من المجازر فيما كانت الينابيع في المدينة على مرّ العقود مصدراً للارتواء وغذاء الرعاة الكرد ومواشيهم والذين بدورهم استقروا مع أقرانهم في المدينة بعشائرهم المختلفة وانضم إليهم آخرون بعد انتعاش الزراعة في سهولها بِهمّة وخبرة السريان والأرمن، ثم تصدّر الكرد الإيزيديين من أبناء ريف المدينة هذا المجال الحيوي والذي طبع المدينة بخيراتها حتى أضحت مركزاً لشركة زراعية ضخمة أنشأتها عائلتَي أصفر ونجار في خمسينيات القرن المنصرم.

هذا التناغم ما بين العيش بين المكونات المختلفة والعمل والاقتصاد المحلي جعل منها محطّ استقرار وازدهار عفوي، طبيعيّ وإنساني، فبرز فيها الشعراء والفنانون والموسيقيون والرياضيون والأطباء وغيرهم ممن أبدع وساهم في جعلها بلدة تشعّ بالاستقرار والهناء.

وكمركز منطقة في محافظة الحسكة إلى جانب ديرك والقامشلي، تعرضت أراضي وممتلكات أهلها للاستيلاء وكذلك التغيير الديمغرافي الأول بشكل ممنهج خصوصاً مع تنفيذ مشروع الحزام العربي الذي بدأ بإنشاء بلدة مبروكة (40 كم غربي سري كانيه) ولتنتهي بقرابة أربعين قرية استيطانية موزعة على جانب الحدود مع تركيا وصولاً إلى أقصى حدود منطقة ديريك سنة 1975 ليصبح سكان هذه القرى من السوريين الذين غمرت أراضيهم في ريف الرقة جرّاء إنشاء بحيرة سد الفرات، حيث أجبر العديد منهم بأمر من السلطات الحكومية على السكن في هذه المنطقة وفق رواياتهم.

كان المكوّن الكردي نشيطاً في المدينة لكنه كان محظوراً ومقموعاً من قبل السلطات الأمنية والحزبية، فكانت الاعتقالات والإجراءات التعسفية تطال الناشطين والمثقفين منهم، ناهيك عن عدم التوظيف والمضايقات المختلفة التي تطبّق عليهم بسبب انتمائهم القومي فقط.

كانت جذوة النضال في هذه المدينة متّقدة على الدوام لدى السكان الكرد فقد أحيوا في السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي عيد نوروز ولم يتوقف الاحتفال به بالرغم من قمع المحتفلين واعتقال الناشطين إلا بعد احتلال المدينة من قبل تركيا والفصائل السورية المدعومة منها.

شكّل الكرد في المدينة إلى جانب فعاليات الحياة المختلفة الطرف المدني المعارض بشكل سلمي في المدينة من خلال تنظيماته السياسية وحركته الحزبية التي برزت مع نشوء أول حزب كردي في سوريا أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، فقد كانوا الأكثر تنظيماً والأكثر بروزاً ونشاطاً مقارنة بغيرهم من التنظيمات السورية المعارضة التي كان أعضاؤها على شكل شخصيات وأفراد كجماعة الإخوان المسلمين أو الشيوعيين المعارضين وحتى لاحقاً الإسلاميين السلفيّين.

كانت المدينة حاضرة بقوّة في انتفاضة 12 آذار عام 2004 من خلال التظاهر والاحتجاج الغاضب حيث أقدم الشباب منهم على كسر تمثال الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، الواقع في دوار على طريق الحسكة في القسم الجنوبي من المدينة، ولكن سرعان ما قمعت تلك التظاهرات واعتُقِل المئات من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة التي وصلتها تعزيزات عسكرية وانتشار لقطعات الجيش في المدينة، وتعرضوا للتعذيب الشديد، الذي أدى إلى فقدان الشهيد أحمد معمو كنجو لحياته جراء آثار التعذيب فيما يزال يعاني آخرون حتى الآن من آثار جسدية ونفسية لما لاقوه من أفظع الممارسات والانتهاكات داخل أقبية تلك المفارز الأمنية، كان من بينهم شبّان قاصرين، كما قضى العشرات منهم عقوبة السجن لمدة أكثر من عام بعدما  أفرج عنهم بعفو رئاسي جراء الضغوط الداخلية والخارجية على الحكومة السورية وقتها.

في خضم الحراك السلمي الذي اجتاح البلاد في آذار 2011 خرجت أول تظاهرة في المدينة في 8 أبريل(نيسان) 2011 وكان جميع من تظاهروا شبابٌ أكراد ويرفعون العلم السوري، لتنضم التنظيمات الكردية لها في الأشهر اللاحقة، والتي حرصت على سلميّة التظاهرات بعيداً عن التسلح الذي اجتاح بقية المناطق السورية بعد أشهر من انطلاق تلك الاحتجاجات وبقيت بالفعل هكذا إلى أن كانت المدينة مع أكبر حدث في تاريخها الحديث عندما دخلتها فصائل مسلّحة من الجانب التركي عبر الحدود، تحت مسمّى  “الجيش السوري الحرّ” بقيادة “جبهة النصرة” و”غرباء الشام” في 8 نوفمبر(تشرين الثاني) عام2012  بحجة طرد قوات النظام والقوى الأمنية في المدينة والذي لم يتجاوزوا العشرات، فقد كانت تلك حجّة للسيطرة على المدينة التي تعتبر بوابة غربية لعموم الجزيرة السورية لما لها من أهمية استراتيجية من الناحية الجغرافية والاقتصادية.

شاءت الصدفة أن أكون شاهداً على ما كانت تنوي تلك الفصائل القيام بها بعد سيطرتها على المدينة فقد أكد لي قائد المجلس العسكري أثناء احتجازي بشكل مؤقت بسبب عملي الصحفي بأنهم ينوون السيطرة على كامل المنطقة الحدودية مع تركيا وصولاً إلى نهر دجلة بداعي “تحريرها” من النظام السوري، وبعد أيام قليلة من السيطرة على المدينة توجهت قوّة من الفصائل إلى بلدة القيروان  التي تبعد نحو 15 كم غربي بلدة الدرباسية، ويسكن فيها السكان الغمر، واستولت تلك القوة على السلاح الموجود بحوزة أعضاء ومسؤولي حزب البعث وكانوا قد تلقّوه من الأجهزة الأمنية في فترات سبقت دخول الفصائل.

كانت سري كانيه أول مدينة تواجه الجيش الحر وفصائله التي كانت تتلقى دعماً مباشراً وعلنياً من تركيا من خلال وحدات حماية الشعب التي تشكّلت حديثاً مع تطور الأحداث في سوريا وانضم إليهم شباب مستقلين وآخرين محسوبون على الحركة السياسية الكردية إلى صفوف الدفاع عن المدينة عند اندلاع أولى المواجهات في 18 نوفمبر 2012 ومن ثم تتالت المعارك بين الوحدات وتلك الفصائل حتى أُخرجت الفصائل تماماً من المدينة وريفها في أكتوبر (تشرين ألأول) عام 2013 وفي الأثناء ظهر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي كان عناصره مما كانوا يعرفون في سري كانيه بـ”أمن المسلمين” وكانت مظاهرهم توحي بالتشدّد من خلال لحاهم الطويلة وسراويلهم القصيرة.

بالرغم من القتال الضاري مع “تنظيم داعش” في ريف المدينة إلا أنها استعادت عافيتها شيئاً فشيئاً وتشكلت فيها لاحقاً مؤسسات مدنية ومقرّات ثقافية وسياسية وغيرها من المظاهر الحياتية الجديدة بعيداً عن أي سلطة للنظام أو المعارضة فكانت جميعها تابعة للإدارة الذاتية مع إعلان تأسيسها سنة 2014، كما أن التنوّع الديني والثقافي والعرقي أصبح أكثر تنظيماً ومحميّاً مقارنة بغيره من عهود الدولة السورية إلى أن انتكست المدينة في التاسع من أكتوبر 2019 مع بدء تركيا عدوانها العسكري عبر العملية العسكرية التي أطلق عليها “نبع السلام” برفقة فصائل ما يسمّى بـ” الجيش الوطني السوري” المعارض، لتتغير ملامح المدينة وتخرج من خارطة سوريا وتصبح محتلّة من تركيا، كما بدأ فيها عهد جديد من التغيير الديمغرافي على الأساس العرقي فلم يتبقى في المدينة سوى بضع عشرات من الأشخاص الكرد وكذلك المسيحيّون والإيزيديّون بعدما كانوا يعدّون بعشرات الآلاف، كما أن السكان العرب رفضوا العيش في ظل حكم الفصائل منذ اللحظة الأولى من الاجتياح وتحول معظم سكان سري كانيه الذين تجمعهم جميعاً علاقات متجذّرة إلى نازحين مهجّرين قسراً من ديارهم التي تنهشها انتهاكات فصائل تأتمر بقرار تركي بحت وتحولت شوارع المدينة المسالمة إلى قطاعات كغنائم حرب للفصائل المتناحرة والغريبة عن المنطقة وأهلها.

تمرّ المدينة في عهدها الحالي بمسار حرج للغاية وغير طبيعي بل قسري قد يغيّر شكلها إلى الأبد ما لم تنتهي مأساة سكانها الأصليين بعودتهم الآمنة الكريمة إلى ديارهم وتصبح خالية من أية مظاهر للاحتلال أو أية قوّة تأتمر بقراراته أو تنفذ أجنداته غير السورية.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية