بلغت الحملة العسكرية التي أطلقها النظام السوري وحلفاؤه في ريف مدينتي حماة وإدلب ذروتها خلال الأسبوع المنقضي. فالحملة التي بدأت منذ 26 أبريل الماضي بقصف مكثف بكافة أنواع الأسلحة تطورت خلال الأسبوع الماضي إلى هجوم عسكري لا يزال مستمرا، وقد نجح في انتزاع السيطرة على بلدات رئيسية تقع ضمن ما يعرف بمنطقتي “خفض التصعيد” و”المنطقة منزوعة السلاح”.

يعتبر الهجوم البري أحد مؤشرات اندفاع النظام السوري وحلفائه لتضييق الخناق على مدينة إدلب، وصولاً إلى استرجاعها بعمل عسكري ستكون له تبعات إنسانية مرعبة. ويضاف إلى ذلك مؤشران آخران، أولهما مشاركة القوات الروسية بشكل مباشر وفعال، سواء في عمليات القصف الجوي أو بالهجوم البري، وهو ما لم يحدث منذ توقيع اتفاقيات التهدئة في شهر سبتمبر الماضي. والثاني هو اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف في موسكو في سياق توسيع الحملة العسكرية ومواجهة الضغوط الدولية المتوقعة جراء تزايد أعداد النازحين وارتفاع الخسائر في صفوف المدنيين في الأسابيع القادمة.

اللافت أن ما يحدث يأتي بعد أسابيع قليلة على إعلان وزير الخارجية الروسي أن الهجوم العسكري على مدينة إدلب ومحيطها غير ممكن في الوقت الحالي، مشدداً على الاتفاقات مع الجانب التركي. ورغم أن ما يحدث هو خرق واضح لتلك الاتفاقات، بقيت أنقرة صامتة في ما بدا أنه موافقة على الهجوم الحاصل.

أطلق الصمت التركي تكهنات بشأن “صفقة” مع روسيا تسمح بموجبها الأخيرة لأنقرة بالتوغل في مدينة تل رفعت التي تسيطر عليها القوات الكردية مقابل تغاضي أنقرة على التحركات الروسية في ريفي حماة وإدلب. ولكن الأرجح أن موسكو متحررة من أي تعهدات تركية، وهي تتحرك بفعل فشل تركيا في إنهاء سيطرة جبهة النصرة على مدينة إدلب ومناطق واسعة من شمال سوريا حسب ما جرى الاتفاق عليه في سوتشي بين الجانبين.
الأرجح أيضا أن تركيا غير متمسكة بتلك المناطق وقد وافقت بأنها على المدى البعيد، ستؤول لحليف روسيا، أي للنظام السوري. هكذا يمكن تفسير الصمت التركي رغم تكثيف قوات النظام السوري هجماتها الجوية والصاروخية حتى على محيط نقاط المراقبة التركية، وهو ما أدى لوقوع عدد من الإصابات بين الجنود الأتراك الأسبوع الماضي.

لكن القرار بإطلاق الحملة العسكرية يرتبط أيضاً بالتطورات السياسية والعسكرية للمشروع الكردي- الأميركي في مناطق شمال وشرق البلاد خلال الأشهر الماضية. إذ أعاد تراجع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن سحب قواته من سوريا الحياة لذلك المشروع، وقرع أجراس الإنذار لدى موسكو وطهران وأنقرة. فبعد إعلان ترامب عن “انسحاب سريع″ للقوات الأميركية من سوريا مطلع العام الحالي، فضّل حلفاء النظام السوري انتظار تحقق ذلك، وبالتالي تجنب التصعيد العسكري خشية أن يؤخر ذلك عملية الانسحاب.

ولكن خلال الأشهر الماضية، قررت الإدارة الأميركية الإبقاء على جزء من قواتها دون تحديد مدة زمنية لذلك، كما طلبت من حلفائها الأوروبيين مشاركتها في حماية المنطقة على المدى الطويل. وفضلاً عن ذلك أبدت الإدارة الأميركية رغبة في توسيع الدور العربي في تلك المناطق. ويشمل ذلك دعم المكونات العربية المحلية لتحقيق الاستقرار وتخفيف الآثار السلبية للحكم السلطوي الذي تفرضه القوات الكردية.

كما شجعت واشنطن مشاركة دول عربية، وخصوصا كل من السعودية والإمارات، في عمليات تثبيت استقرار طويل الأمد في مناطق شرق الفرات حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية. الأخيرة بدورها تعرضت لضغوط أميركية لتوسيع المشاركة السياسية وتجنب كل ما يمكن أن يؤدي لانفجار أمني في المنطقة. وفي هذا السياق، جاء “ملتقى العشائر السورية” الذي نظمته قوات قسد في مدنية عين عيسى شمالي الرقة قبل نحو أسبوعين.

أثار المؤتمر غضب النظام السوري الذي وصفه بـ”الخيانة الوطنية”. وإذا كان موقف النظام السوري مفهوماً ومتوقعاً، فقد جاء الموقف الروسي حاداً بشكل غير مألوف. إذ خصصت وزارة الخارجية الروسية بياناً للحديث عن الملتقى، معتبرة أنه يهدف إلى تقويض جهود التسوية ومسار أستانة من جهة، وإلى إتاحة المجال للولايات المتحدة لكي تحافظ على “وجود طويل الأمد” في سوريا من جهة أخرى. كما اتهمت موسكو واشنطن بتقديم “الرشوة” لمن حضروا وتجنيد مشاركين لا يتمتعون بحيثية اجتماعية أو قبلية، ما يوضح حجم التوتر الروسي الذي كان قد بدأ يتصاعد مع الحديث عن اتفاق أميركي- تركي حول منطقة عازلة في شمال البلاد محاذية للحدود التركية.

ولم يكد الحاضرون يختتمون أعمال الملتقى حتى أعطت روسيا كل من النظام السوري والميليشيات الطائفية المساندة له الضوء الأخضر لتكثيف الحملة العسكرية وتوسيعها لهجوم بري، موفرة التغطية الجوية الضرورية لنجاحها. سوف يعمل النظام وحلفاؤه كل ما بوسعهم لمنع تثبيت الوضع القائم باعتباره “حلاً فعلياً” طويل الأمد. ويبدو أن السيطرة على “مناطق خفض التصعيد” من المعارضة السورية تقع في صلب ذلك في الفترة القادمة.

“العرب” اللندنية

شارك هذه المقالة على المنصات التالية