د. أحمد الخليل
صور غريبة
استعرضنا في الحلقة السابقة صورة الكرد في الذاكرة العربية قبل الإسلام، واتضح أن المعلومات في هذا المجال كانت قليلة، ومع ذلك ظلت تلك الصورة متماسكة في صدر الإسلام (عهد النبوة والخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر، عمر، علي، عثمان)، وظلت كذلك طوال العهد الأموي أيضاً (40 – 132 هـ)، واحتفظت بتماسكها في العقود الأولى من العهد العباسي، ثم طرأت عليها تحوّلات جديدة، أنتجت في كثير من الأحوال صوراً غريبة عن الكرد، وقدّمت الكرد إلى الأجيال الغرب آسيوية على نحو مشوَّه وفي مشاهد منفِّرة، بل نجد بين أيدينا من المعطيات ما يوحي بأنه كانت ثمة مشاريع قائمة لهذا الغرض خصّيصاً.
ودعونا نتناول بالتحليل أحد مشاريع تشويه صورة الكرد، إنه متمثل في قصة الضحّاك (الأزدهاق)، لكن قبل ذلك دعونا نقم بجولة مع المؤرخين والمدارس التاريخية ومنهج المؤرخين في التراث الإسلامي، خلال القرون الهجرية الثلاثة الأول؛ لأن تلك القرون تُعَدّ الينبوع المعرفي الذي كان يستقي منه المؤرخون رواياتهم في القرون التالية، وباطلاعنا على مرتكزات الثقافة فيها نصبح أقدر على معرفة الجهة صانعة المعلومة والمروّجة لها، ونصبح أقرب إلى الواقعية في فهم المعلومة، وأقرب إلى المنطقية في الحكم عليها.
مؤرخون ومدارس ومناهج
هناك ثلاث حقائق مهمة جداً في ميدان التعامل مع الروايات المتداولة في مصادر التراث الإسلامي عامة، وفي مصادر التاريخ خاصة.
أولاً – الحقيقة الأولى: تتعلق بهوية المؤرخين المسلمين الأوائل؛ أقصد مؤرخي القرون الهجرية الثلاثة الأولى، كما تتعلق بالمصادر التي كانوا يستقون منها معلوماتهم حول الأحداث الغابرة، وإليكم ثَبْتاً بأسماء مشاهير مؤرخي تلك الفترة:
1. عُبَيد بن شَرِيَّة الجُرْهُمي ( ت نحو 67 هـ = 686 م): من المعمَّرين، أصله من عرب الجنوب (اليمن)، كانت قبيلته جُرْهُم صاحبة النفوذ في مكّة زمن النبي إبراهيم (القرن 19 ق.م)؛ حسبما تقول الروايات الدينية، ويفتقر عُبَيد – أغلب الأحيان- إلى الحس التاريخي الدقيق، ويقع نهجه في رواياته تحت تأثير الأساطير والإسرائيليات، ومع ذلك كان شديد التأثير في الرواة والمؤرخين بعده (هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، ص 144 – 145).
2. وَهْب بن مُنبِّه (ت 114 هـ = 732 م): من أشهر مؤرخي القرن الأول الهجري، أمه يمنية من حِمْيَر، وأبوه من المقاتلين الفرس الذين أرسلهم كسرى أنو شروان إلى اليمن سنة (575 م)، لمساعدة الزعيم اليمني سَيف بن ذي يَزَن على دحر الأحباش، وكان الأحباش قد احتلوا اليمن سنة (525 م) (فيليب حتي وآخران: تاريخ العرب ص 98، 101). ويفتقر وَهْب مثل عُبيد إلى الحس التاريخي الدقيق، وتغلب الأسطوريات والإسرائيليات على رواياته، وكان شديد التأثير في المؤرخين بعده، حتى إن الطَّبَري، وهو من أبرز أعلام التأليف في المجال الديني، استمدّ في تفسيره الكبير للقرآن كثيراً من أقاويل وَهْب (هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، ص 144).
3. محمد بن إسحاق بن يَسار (ت 151 هـ = 768 م): من الموالى (غير العرب)، وكان جدّه يَسار ممن أُسروا في العراق سنة (12 هـ)، ومعروف أن الفرس كانوا يحكمون الجزيرة قبل غزوات العرب المسلمين، ويقول هاملتون جب في هذا الصدد: ” ومن الخطأ أن نبحث عن أيّ مؤثرات سوى المؤثّرات الفارسية البعيدة في المفهوم الذي قام عليه كتاب ابن إسحاق (السيرة النبوية التي هذّبها ابن هشام) “. (هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، ص 149).
4. هشام بن محمد الكَلْبي (ت حوالي 204 هـ = 819 م)، نسّابة ومؤرخ عربي، كان يستمد معلوماته مما كان يتوافر في الحِيرة من الكتب، ومعروف أن الحِيرة كانت مركزاً للنصارى النساطرة من ناحية، وكانت تحت النفوذ الفارسي سياسةً وثقافةً من ناحية أخرى، واهتم بجمع الأخبار التاريخية من محفوظات كنائس الحِيرة، كما أنه اعتمد على المواد الفارسية التي تُرجمت له. (هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، ص 147).
5. محمد بن عمر الواقِدي (ت 207 هـ = 823 م)، وهو من الموالي، ويُعَدّ من أقدم المؤرخين في الإسلام ومن أشهرهم، وهو من حُفّاظ الحديث، وُلد بالمدينة وتوفي بالعراق.
6. أبو عُبَيْدَة مَعْمَر بن المُثَنّى (ت 209 هـ = 824 م)، من الموالي، وأصله من الجزيرة، والمشهور أنه من الفرس، وهو من كبار اللغويين، وكان مهتماً بذكر أخبار التاريخ الفارسي أيضاً، فاتُّهم بالتحامل على العرب، وصُّف في عِداد كبار الشعوبيين (الشعوبيون هم من لا يرى للعرب فضلاً على غيرهم من الشعوب، ويذكرون نقائصهم قبل الإسلام).
7. أبو الحسن المَدائني (علي بن محمد، ت 225 هـ = 840 م): من الموالي، بصري الأصل، أقام في المدائن، فلُقّب بالمدائني، وقد اعتمد الطَّبَري والمهتمون بأخبار المغازي على كثير من رواياته.
8. محمد بن سَعْد (ت 230 هـ = 844 /845 م)، من موالي قبيلة بني زُهْرة القُرَشية، ولد في البصرة، وأقام في بغداد، وهو كاتب الواقدي، وصاحب الكتاب التاريخي الشهير (طبقات ابن سعد)، وقد استفاد في ذلك الكتاب من روايات أستاذه الواقدي.
9. عُمَر بن شَبَّة (ت 262 هـ = 876 م)، من موالي قبيلة بني نُمَيْر، أديب نحوي إخباري لغوي فقيه، نشأ بالبصرة، وتوفّي بسامرّاء.
10. أحمد بن يحيى البَلاذُري (ت 279 هـ = 892 م)، ليس بعربي، والأرجح أنه من كتّاب الفرس، ومن أهل بغداد، وهو مؤرخ جغرافي نسّابة، وأحد المترجمين من الفارسية إلى العربية، تلقّى العلم عن ابن سعد والمدائني، وله كتاب (فتوح البلدان).
11. ابن واضح اليعقوبي (أحمد بن إسحاق ت 284 هـ = 897 م)، مؤرخ جغرافي كثير الأسفار، من أهل بغداد، صاحب كتاب (تاريخ اليعقوبي)، وهو من الموالي، والأرجح أنه فارسي.
12. الطَّبَري (محمد بن جرير ت 310 هـ = 923 م)، أصله من طَبَرستان في شمالي بلاد إيران (جنوبي بحر قزوين)، وهو من ذوي الثقافة الفارسية، ” وقد اعتمد الطبري فيما يختص بتاريخ الفرس على ترجمات عربية لكتب فارسية، وخاصة كتب ابن المُقَفَّع، كما استمد من كتب هشام الكَلْبي الذي كان يعتمد في تاريخ ملوك الفرس والحِيرة على وثائق ومدوَّنات، وعوّل في تاريخ الروم على ما نقله من كتب نصارى الشام “، ومر في أثاء حديثنا عن وَهْب بن مُنَبِّه أن الطبري تأثر به. (أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن، ص 20 – 21).
(لمزيد من المعلومات راجع: الفِهرِسْت لابن النديم، وتاريخ الإسلام للذَّهَبي، ومعجم الأعلام للزركلي، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحّالة).
وبتدقيق النظر في منابت هؤلاء المؤرخين إثنياً وجغرافياً وثقافياً يتضح أن المؤثرات العربية في رواياتهم كانت قليلة، وبخاصة حينما كان الأمر يتعلق بأخبار غير العرب قبل الإسلام.
ثانياً – الحقيقة الثانية: تتعلق بالمدارس التاريخية المؤثّرة في إنتاج الأخبار وتسويقها، خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى، فثمة مدرستان رئيستان، كانتا مصدرين لمعظم الروايات الواردة في كتب المؤرخين والجغرافيين والموسوعيين المسلمين؛ أقصد الروايات ذات الصلة بأخبار ما قبل الإسلام:
1 – المدرسة الأولى كان مركزها اليمن، وكان وَهْب بن مُنَبِّه الفارسي الأصل من أبرز شيوخ تلك المدرسة، وقد مزج الرجل ببراعة بين ما جاء في مصادر التاريخ الفارسية من أحداث وأساطير، وبين ما جاء في الروايات العبرانية والنصرانية، حتى إنه صار من المقرَّبين إلى خلفاء بني أُميّة، ومعروف أن اليهودية كانت قد انتشرت في اليمن برعاية من الملك اليمني ذي نُواس، وكانت النصرانية تنافسها بقوة، وكان الخصام شديداً بين الثقافتين، ثم دخلت الثقافة الفارسية إلى الميدان، وصارت منافساً لكل من اليهودية والنصرانية، وكانت الدوائر السياسية التي تقف وراء هذه الثقافات، تعمل لتغليب ثقافتها على الثقافات الأخرى، ليس في اليمن فقط، بل في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية.
2 – المدرسة الثانية كان مركزها في العراق، وصحيح أن الثقافة الفارسية كانت صاحبة النفوذ هناك، لكن كان للثقافة النصرانية في تجلياتها النَّسطورية حضور قوي أيضاً، ولا سيما في الحِيرة (مركز الإمارة العربية التابعة للفرس)، وفي الجزيرة (بين النهرين دجلة والفرات)، ومعروف أن النساطرة فرقة نصرانية منشقة، رفض مؤسسها نسطور الأخذ بالمذهب المَلْكاني (الخلقيدوني) الرسمي في الدولة البيزنطية (الرومية)، فتعرض أتباعه للاضطهاد، ولجأوا إلى أراضي الدولة الساسانية عدوّة بيزنطا، ونشأ تحالف سياسي وثقافي وثيق بين الساسانيين والنساطرة، وكانت (أكاديمية) جُندي سابور (گُنْدى شابور) ” مركزاً للدراسات الآرامية، وكان أغلبية قوّادها من العلماء النسطوريين، بيد أنها كانت في الوقت نفسه مكاناً عاماً لاجتماع الثقافات الفارسية والهندية واليونانية والآرامية، وما ناولته للعرب كان مزيجاً من كل تلك الثقافات ” (هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 297).
ثالثاً – الحقيقة الثالثة: تتعلق بمنهج معظم المؤرخين المسلمين في التعامل مع الروايات والمعلومات، فهم في معظم الأحيان لا يكلّفون أنفسهم عناء تفحّصها، لا من حيث تتبّعُ المنشأ؛ تُرى في أيّ وسط جغرافي وثقافي ظهرت أولاً؟ ولا من حيث تتبّعُ المسارات؛ تُرى كيف بدأت؟ وكيف انتهت؟ ولا من حيث طبيعتُها؛ تُرى أهي واقعية أم أسطورية؟ والمؤسف أن معظمهم يسرع إلى تلقّف المعلومة، ولا سيما إذا كان فيها شيء من الغرابة، فيتبنّاها بحماس، ويقدّمها إلى الأجيال على أنها حقيقة أو شبه حقيقة؛ هذا عدا تركيزهم- قدامى ومحدثين- على (الكمّ) بدل (النوع)، ووقوعهم تحت تأثير الرغبة في (تنفيخ) الكتاب، كما أشرنا في حلقة سابقة؛ وها هو ذا المؤرخ الشهير ابن الأثير يفصح عن بعض ذلك قائلاً:
” فإني لم أزل محبّاً لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها، … فلمّا تأمّلتها رأيتها متباينةً في تحصيل الغرض، يكاد جوهر المعرفة بها يستحيل إلى العَرَض، فمن بين مطوِّل قد استقصى الطرق والروايات، ومختصِر قد أخلّ بكثير ممّا هو آت، ومع ذلك فقد ترك كلُّهم العظيمَ من الحادثات، والمشهورَ من الكائنات، وسوّد كثيرٌ منهم الأوراق بصغائر الأمور التي الإعراض عنها أولى، وتركُ تسطيرها أحرى، … وقد أرّخ كلّ منهم إلى زمانه وجاء بعده من ذَيّل عليه، وأضاف المتجددات بعد تاريخه إليه، والشرقيُّ منهم قد أخلّ بذكر أخبار الغرب، والغربيُّ قد أهمل أحوال الشرق؛ فكان الطالب، إذا أراد أن يطالع تاريخاً متصلاً إلى وقته، يحتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددّة، مع ما فيها من الإخلال والإملال ” (الكامل في التاريخ، ج 1، ص 2).
ولا ننس في الوقت نفسه أنه لم تكن ثمة مؤسسات أكاديمية تجمع المؤرخين، وتشرف على أعمالهم في إطار ضوابط نقدية محددة، وإنما كان المؤرخون يقومون بجهود فردية. ولا نُسقط من الحساب أيضاً أن العلم والأدب كانا من أبواب كسب الرزق في ذلك الحين، ومن وسائل الوصول إلى أبواب الخلفاء والأمراء وإلى مجالسهم، وخاصة بالنسبة إلى أبناء الموالي؛ وكلما كان المؤرخ غزير المعلومات، بغضّ النظر عن مصدرها وصحّتها، وكان أكثر سرداً للغرائب والعجائب، كانت سوقه أكثر رواجاً، وكان المردود المادي أوفى.
وبعد هذا لنعد إلى أبرز الروايات ذات العلاقة بقصة الضحّاك.
رواية ابن قُتَيْبة الدِّينَوَري
ابن قُتَيْبَة الدِّينَوَري (عبد الله بن مُسلِم، ت 276 هـ = 889 م)، أديب نحوي لغوي، وهو بغدادي، غير عربي، والأرجح أنه فارسي الأصل، لأنه يقال له (المَرْوَزِيّ) نسبة إلى مدينة (مَرُو) عاصمة إقليم خُراسان، وهو ليس من أهل مدينة (دِينَوَر/دَيْنَوَر) الكردية الواقعة في جنوبي كردستان (جنوب غربي إيران حالياً)، والتي كانت تابعة لولاية قَِرْمِيسِين (كَرْمَنْشاه)، وإنما عمل قاضياً في دينور، فنُسب إليها، وهو أقدم مَن وصلنا ما دوّنه حول علاقة الكرد بقصة الضحّاك، فقد قال في كتاب (المعارف، تحت عنوان: الأكراد):
” تَذكر العجم أن الأكراد فَضْلُ طعام بِيوراسف؛ وذلك أنه كان يأمر أن يُذبَح له كلَّ يوم إنسانان، ويُتّخَذ طعامه من لحومهما، وكان له وزير يقال له: أَرياييل، فكان يَذبح واحداً يَسْتَحْييه، وَبْعث به إلى جبل فارس، فتوالدوا في الجبال وكثروا “.
وأورد الزبيدي (ت 1205 هـ = 1790 م) رواية ابن قتيبة، ثم علّق عليها قائلاً: ” قال شيخنا: وقد ضعّف هذا القول كثير من أهل الأنساب. قلت: وبيوراسْف هذا هو الضحّاك الماري [لعل الصواب: المادي، نسبة إلى الماد= الميد]، مَلَكَ العجم بعد جَمْ بن سليمان ألف سنة. وفي (مفاتيح العلوم) [كتاب للإمام فخر الدين الرازي ت 606 هـ يدور حول تفسير سورة الفاتحة] هو معرَّب دَهْ آك؛ أي ذو عشر آفات. وقيل: معرّب أزده؛ أي التِنّين، للسَّلَعَتَين [الزائدتين] اللتين كانت له ” (تاج العروس، مادة كرد). وواضح أن ابن قتيبة نسب الرواية إلى العجم، وهو يقصد الفرس، وواضح أيضاً أن أهل الأنساب ضعّفوها.
رواية الطََّبَري
معروف أن الطَّبَري ( ت 310 هـ = 923 م) من أبناء الثقافة الفارسية الأقحاح، ويتميّز بأنه موسوعي الثقافة، وهو من كبار مفسّري القرآن، كما أنه من كبار المؤرخين المسلمين، وها هو ذا المؤرخ ابن الأثير يقول في وصف كتاب (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، والمشهور باسم (تاريخ الطبري):
” فابتدأتُ بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطََّبَريّ؛ إذ هو الكتابُ المعوَّل عند الكافّة عليه، والمرجوعُ عند الاختلاف إليه،… فلمّا فرغتُ منه، وأخذتُ غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها، وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، … وإنما اعتمدت عليه من بين المؤرخين؛ إذ هو الإمام المتقِنُ حقّاً، الجامعُ علماً وصحّةَ اعتقادٍ وصدقاً ” (الكامل في التاريخ، ج1، ص 3).
ولا ريب في أن الطبري كان يعلم الرواية الفارسية التي أدخلت الكرد في سياق قصة الضحّاك، لكنه أعرض عن ذكرها، ولم يقبل أن يوردها في كتاباته، وحينما يُعرض مؤرخ شهير وقدير كالطبري عن ذكر تلك الرواية فأقلّ ما يعني ذلك أنه طعن في مصداقيتها، وأباح للدارسين أن يَعُدّوها ضرباً من الإقحام والتكلّف والتلفيق.
وقد ذكر الطبري أن الضحّاك هو (الأزدهاق)، والعرب تسمّيه الضحّاك، ويدّعي أهل اليمن أنه يمني، وأنه الضحّاك بن عُلْوان بن عُبَيد بن عُوَيْج، وأن أخاه سِنان حكم مصر حينما هاجر إليها النبي إبراهيم. وأما الفرس فيذكرون أن الأزدهاق هو بِيوَراسْب بن أَرْوَنْداسْب بن زينكاو بن ويرَوْشك بن تاز، بن فرواك بن سيامك بن مشا بن جِيُومَرت، ومنهم من يذكر له نسباً آخر هو أنه الضحّاك بن أندرماسب بن زنجدار (زنحدار) بن وندريسج بن تاج بن فرياك (فريال، فرمال) بن ساهمك (شاهمك) بن تاذي (ماذي/ مادي) بن جيومرت. ونقل الطبري عن هشام بن محمد الكلبي أن الضحّاك هو نَمْرود، وأن النبي إبراهيم وُلد في زمانه، وأنه الذي أمر بإحراق إبراهيم، كما ذكر الطبري قصة الحيّتين على منكبي الضحّاك، وإطعامهما من دماغ البشر.
وذكر الطبري أيضاً قصة ثورة كاوَه على الضحاك، وسماه (كابي)، ونسبه إلى مدينة أصبهان (أصفهان)، وذكر أن قطعة الجلد التي اتخذها راية كانت من جلد أسد، فجعل ملوك الفرس تلك الراية عَلَمهم الأكبر، وسُمّوها (دِرَفْش كابيان)، وكانوا يتبرّكون بها، ولا يرفعونها إلا في الأمور العظام، وذكر الطبري قصة انتصار أفريدون على الضحّاك بفضل ثورة كاوَه، وفي مكان آخر من كتابه سمّى الضحّاك باسم (أجدهاق، وذكر أن عمره كان ألف سنة، وأن مدة حكمه كانت ستمئة سنة، وزعم بعضهم أن النبي نوحاً كان في زمانه (تاريخ الطبري، ج1 ، ص 194 – 201).
ولم يذكر الطبري قطّ أن الكرد كانوا من سلالة الناجين من القتل.
رواية الهَمَذاني
الهَمَذاني هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إسحاق المعروف بابن الفقيه (توفي نحو 340 هـ = نحو 951 م)، وهو من مدينة هَمَذان (هَمَدان= آمَدان)، وهي عاصمة الميديين القديمة أگبَاتانا، وتعني (الفريدة= العديمة النظير)، والهمذاني من كبار الجغرافيين في التراث الإسلامي، وقد أورد معلومات تفصيلية تتعلق بقصة الضحّاك، وصرّح في بدايتها بأنها ” تدخل في باب الخرافة، ومقتبسة من روايات الفرس “، وفي هذه الرواية اسم الضحّاك هو بيوَراسْف، ” ويقال إن طول أفريذون تسعة أرماح- والرمح بباعه ثلاثة أَبْوُع [ثلاثة أذرع]- وعرض عَجُزه [مؤخرته] ثلاثة أرماح، وعرض صدره أربعة أرماح، ووسطه رمحان ” (الهمذاني: البلدان، ص 552).
وذكر الهمذاني أن فريدون (أفريدون/أفريذون) جاء بالضحّاك من المغرب نحو المشرق، ليسجنه في جبل دُنْباوَنْد، فمرّ بكُورة (منطقة) إصبهان، فجلس للغداء، ” فأدار سلاسله على جبل من جبال إصبهان، وأوثقه بأساطين وسكك من حديد قوية، وتوثّق منه حتى ظن أنه قد أحكم ما أراد، حتى إذا جلس على غدائه، اجتذب بيوَراسْف سلاسله مع تلك الأساطين والسكك، واحتمل الجبل يجرّه بسحره، ثم طار به في الهواء، فلحق فريدون به في مدينة بزورند [كذا من غير ضبط، وهي الرَّي]، وضربه بمقمعة من حديد، فسقط بيوراسف مغشيّاً عليه، ورسا ذلك الجبل المنقول من إصبهان بمدينة الرّي “، ثم قاد فريدون بيوراسف من الرَّي نحو محبسه (الهمذاني: البلدان، ص 549).
وفي رواية الهمذاني اسم وزير الضحّاك هو أرمائيل، وهو الذي أشفق على الناس، ” فإذا جاؤوه بالأسارى من الآفاق ليذبحهم، ويأخذ أدمغتهم، فيغذّي الحيّتين، أعتق في كل يوم أسيراً، وذبح مكانه كبشاً، وخلط دماغه بدماغ المقتول، وغذا به الحيّتين أعواماً كثيرة، ثم بدا له في الذبح [أعاد النظر في قضية الذبح]، فكان إذا جاؤوه بالأسارى أعتقهم، وأسكنهم الجبل الغربي من قرية ميندان… فكان كلما أعتق أسيراً أعطاه داراً، وأسكنه الجبل الغربي، وأمره أن يزرع لنفسه ما يريد ويبني ما يشاء. فكانوا يفعلون ذلك ” (الهمذاني: البلدان، ص 550 – 551).
وبعد أن انتصر أفريدون على الضحّاك، وسجنه في جبل دُنباوَنْد، أوكل أمر حبسه إلى الوزير الطيب أرمائيل، وكان الوزير قد اهتدى إلى طِلَّسْم، فطَلْسَم طعامَ الضحّاك، بحيث يشبع ولا يحتاج إلى طعام آخر، وذات يوم أوفد أفريدون رسولاً إلى الوزير ليأتيه بخبر الضحّاك، فأحبّ الوزير أن يُطلع الرسول على حال المعتقين من الذبح، فأمر ” أن يوقد كلُّ واحد منهم على باب الموضع الذي هو فيه ناراً، ففعلوا. فقال الرسول: ما هذا؟ قال: هؤلاء المعتقون من الذبح. قال الرسول بالفارسية: وسْ مانا كي ته آزاد كردي؟ أي: كم من أهل بيت قد أعتقتهم! وتناهى الخبر إلى أفريذون، فسرّ به سروراً شديداً “، ثم مضى أفريذون فشاهد الأمر على الواقع، وكافأ أرمائيل بأن أقطعه مدينة دُنباوند بقراها، واتخذ أفريدون يوم سجن بيوراسف عيد (المِهْرَجان) (الهمذاني: البلدان، ص 551 – 552).
وجاء في رواية أخرى نقلها الهمذاني، وهي لرجل من كَلْب (الأرجح أنه هشام بن محمد الكلبي): أن أفريدون أراد معاقبة الوزير أرمائيل بعد الانتصار على بيوراسف، لأنه كان صاحب الذبح، فقال الوزير ” كان يأمرني بذبح اثنين في كل يوم، فكنت أذبح واحداً وأعتق الآخر. قال وكيف عِلْمُ صحة ما ذكرت؟ قال: اركب معي حتى أريك إياهم. فركب معه، وسار حتى أشرف على جبال الدَيْلَم والشُّور، فنظر إلى عالَم قد توالدوا وتناسلوا. فقال: هؤلاء كلهم عتقائي. فقال أفريذون: وسْ ما نا كي ته آزاد كردي؟ كم من أهل بيت أعتقتهم! اذهب فقد ملّكتك عليهم، فأعطاه مملكة دُنباوند، فلم يزل الضحّاك عنده موثقاً ستة أشهر، ثم قتله يوم النيروز، فقالت الأعاجم: إمروز نُوروزي، أي: استقبلنا الدهر بيوم جديد، فاتخذوه عيداً ” (الهمذاني: البلدان، ص 554).
ومرة ثانية لا نجد أيّ ذكر للكرد في قصة الضحّاك.
رواية المسعودي
سبق أن أوردنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة الرواية التي ساقها المسعودي (ت 346 هـ = 957 م) بشأن الضحّاك والكرد، ولا بأس من عرضها ثانية، فقد قال:
” ومن الناس من رأى أن الضحّاك ذا الأفواه المقدَّم ذكره في هذا الكتاب، الذي تنازعت فيه الفرس والعرب من أيّ الفريقين هو، أنه خرج بكتفيه حيّتان، فكانتا لا تُغذَّيان إلا بأدمغة الناس، فأفنى خلقاً كثيراً من فارس، واجتمعت إلى حربه جماعة كثيرة وافاه أفريدون بهم، وقد شالوا راية من الجلود تسمّيها الفرس دِرَفْش كاوان، فأخذ أفريدون الضحّاك وقيّده في جبل دُنْباوَنْد على ما ذكرنا، وقد كان وزير الضحّاك في كل يوم يذبح كبشاً ورجلاً، ويخلط أدمغتهما، ويطعم تَينك الحيّتين اللتين كانتا في كتفي الضحّاك، ويطرد من تخلّص إلى الجبال، فتوحّشوا وتناسلوا في تلك الجبال، فهم بَدء الأكراد، وهؤلاء من نسلهم، وتشعّبوا أفخاذاً “. (مروج الذهب، ج 2، ص 122 – 123).
وأضاف المسعودي في المصدر السابق ذاته قائلاً:
” وما ذكرناه من خبر الضحّاك فالفرس لا يتناكرونه [= لا ينفونه]، ولا أصحاب التواريخ القديمة والحديثة “.
وتناول المسعودي قصة الضحّاك في كتابه (التنبيه والإشراف، ص 75 – 76) أيضاً، فقال:
” بيوَراسْب، وهو الضحّاك مَلَك ألف سنة، والفرس تغلو فيه، وتُذكَر من أخباره أن حيّتين كانتا في كتفيه تعتريانه لا تهدئان إلا بأدمغة الناس، وأنه كان ساحراً يطيعه الجن والإنس، ومَلَك الأقاليم السبعة، وأنه لما عَظُم بغيُه، وزاد عُتُوُّه، وأباد خلقاً كثيراً من أهل مملكته؛ ظهر رجل من عَوامّ الناس وذوي النُّسك [التقوى] منهم، من أهل إصبهان إسكاف كابي، ورفع راية من جلود علامةً له، ودعا الناس إلى خلع الضحّاك وقتله، وتمليك أفريذون، فاتّبعه عَوامّ الناس، وكثير من خواصّهم، وسار إلى الضحّاك، فقبض عليه وأنفذه أفريذون إلى أعلى جبل دُباوَنْد [دُنباوند] بين الرَّي وطَبَرِستان، فأُودع هناك، وأنه حيّ إلى هذا الوقت، مُقيَّد هناك، في أخبار يطول ذكرها، قد شرحناها في كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر “.
وكي تكتمل الصورة دعونا نقرأ ما أورده المسعودي أيضاً حول أصل الكرد في كتابه (التنبيه والإشراف، ص 78):
” وكذلك الأكراد عند الفرس من ولد كرد بن أسفنديار بن مَنُوشَهْر، منهم البازَنجان، والشوهجان، والشاذنجان، والنشاورة، والبوذيكان، واللّرّية، والجورقان، والجاوانية، والبارسيان، والجلالية، والمستكان، والجابارقة، والجروغان، والكِيكان، والماجَرْدان، والهَذْبانية، وغيرهم ممن بزمام فارس وكَرْمان وسَجِستان وخُراسان وإصْبَهان وأرض الجبال من الماهات [ولايات]؛ ماه الكوفة، وماه البصرة، وماه سَبَذان والإيغارين، وهما البُرْج وكَرَج أبي دُلَفُ، وهَمَذان، وشَهْرُزور، ودراباذ، والصامَغان، وآذربيجان، وأرمينية، وأَرّان والبَيْلقان، والباب، والأبواب، ومن بالجزيزة والشأم والثغور”.
وهكذا قدّم المسعودي ثلاث روايات:
– أما في الأولى فكان مجرد ناقل لما كان شائعاً عند ” الفرس “، وبين ” أصحاب التواريخ القديمة والحديثة “.
– وأما في الثانية فذكر قصة الضحّاك، لكن من غير أيّ ذكر للكرد، اكتفاءً منه بما سبق أن أورده في كتابه (مروج الذهب).
– وأما في الثالثة فنقل ما رواه الفرس بشأن أصل الكرد، من غير ذكر أية علاقة لهم بقصة الضحّاك.
وأقل ما يمكن أن يقوله المرء وهو يكرر النظر في هذه الروايات أنها مضطربة ومحيّرة، ولا تستند على أية وثيقة تاريخية ذات مصداقية، وبالطبع لا نحمّل المسعودي مسؤولية ذلك، فحسبُ الرجل أنه كان أميناً في عرض ما وصل إليه من روايات الفرس، أما بالنسبة لرأيه هو فقد برّأ ذمّته من هذه الرواية بصورة واضحة، وبين أيدينا دليلان على ذلك، هي:
1 – الدليل الأول عندما صرّح بأن الفرس هم الذين يتداولون هذه الرواية فيما بينهم، ولا تلقى منهم إنكاراً، ولا علاقة لا للعرب، ولا لأيّ شعب آخر، بالترويج لها.
2 – الدليل الثاني عندما صرّح بأن الأصح هو أن الكرد عرب من نسل ربيعة بن نزار (الفرع العدناني)، وبذلك يكون قد أخرج أصل الكرد من دائرة الأحداث المتعلقة بالضحّاك جملة وتفصيلاً.
وقد يقال: إن المسعودي نسب هذه الرواية إلى ” أصحاب التواريخ القديمة والحديثة ” أيضاً، أفليس هذا دليلاً موثَّقاً على صحّتها؟ وهل كان من الممكن أن يتفق المؤرخون- قديمهم وحديثهم- على رواية كهذه؛ لولا أنها كانت مؤكَّدة؟ وإذا رددنا رواية تناقلها المؤرخون القدامى والمحدثين، وأجمعوا ضمناً على صحتها، أفلا يكون ذلك خلطاً للأوراق، ونزعاً للثقة من جميع ما رواه أولئك المؤرخون؟
إنها تساؤلات منطقية بكل تأكيد، وللإجابة عنها بمنطقية حسبنا أن نتذكر ما ورد قبل قليل بشأن أشهر المؤرخين المسلمين في القرن الهجرية الثلاثة الأولى، فإن أصحاب التواريخ القديمة والحديثة الذين ذكرهم المسعودي ليسوا إلا هؤلاء الذين ذكرناهم، ومن هم تَبَعٌ لهم، وكانوا جميعاً- أتباعاً ومتبوعين- ممن يدورون في فلك الروايات التي بثّتها المدرستان الثقافيتان الكبريان؛ مدرسة اليمن، ومدرسة العراق، وكانت هاتان المدرستان – كما علمنا قبل قليل- نتاج تمازج الثقافات الفارسية واليهودية والنصرانية.
رواية الفِرْدَوْسي
سقطت الدولة الأموية سنة (132 هـ = 750 م)، وحلّت الدولة العباسية محلها، ولولا جهود قادة كبار، منهم بُكَيْر بن ماهان، وأبو سَلَمة الخلاّل، وأبو مُسْلم الخُراساني، وخالد البَرْمَكي، ومن ورائهم عشرات الألوف من المقاتلين والمؤيدين – وكان جميعهم من الموالي (غير العرب)- لما استطاع العباسيون الوصول إلى سُدّة الخلافة، ومنذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري ظهرت دول مستقلة وأخرى شبه مستقلة في الأجزاء الشرقية والغربية من الدولة العباسية.
ويهمنا الآن ما جرى في الأجزاء الشرقية، وخاصة في بلاد الشعوب الآريانية (تسمى في مصادر التراث الإسلامي بلاد إيران)، وهي تضم بلاد الفرس والكرد والبُلُوش (البلوج) والآذريين والأفغان، فقد ظهرت في تلك البلاد الدولة الطاهرية، ومؤسسها هو القائد الفارسي الكبير طاهر بن الحسين، أسّسها في عهد الخليفة المأمون (ت 218 هـ)، وكانت عاصمتها نيسابور، وورثتها الدولة الصُّفّارية (254 – 290 هـ = 867 – 903 م)، ومؤسسها يعقوب بن الليث الصُّفّار، وهو من أصل فارسي، ثم حلت محلها الدولة السامانية (261 – 389 هـ = 874 – 999 م)، وينتمي السامانيون إلى أسرة فارسية عريقة، يرجع أصلها إلى بَهْرام جُور، الزعيم الفارسي الشهير قبل الإسلام (د. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام، ج3، ص 65 – 82).
والحقيقة أن العنصر الفارسي كان ما زال قريب العهد بأمجاد الإمبراطورية الساسانية، وكانت الذاكرة الفارسية عامرة بسِيَر ملوك الفرس، وقد بدأ مثقفوهم بإعادة تنشيط تلك الذاكرة، وإحياء الشعور القومي الفارسي، من خلال ترجمة تواريخ ملوك الفرس إلى العربية، وكان المثقف الفارسي الكبير ابن المُقَفَّع (قُتل سنة 142 هـ = 759 م)، من أبرز من قام بذلك حينما ترجم كتاب (خُداي نامَه) من الپهلوية إلى العربية، وسمّاه (كتاب تاريخ ملوك الفرس) (الزركلي: الأعلام، ج 4، ص 140. أمين عبد المجيد بدوي: جولة في شاهنامة الفردوسي، ص7).
وفي ظلال الدولة السامانية الفارسية، وبتشجيع من كبار الأمراء، نشط الأدباء والمؤرخون الفرس في مجال إحياء الثقافة الفارسية، وانتقلوا إلى مرحلة جديدة هي التأليف بالفارسية بدل العربية، وفي إطار عملية الإحياء الشاملة هذه ظهرت النماذج الأولى من ملحمة (شاهْنامه)، وهي عبارة عن تدوين التاريخ الفارسي شعراً، فظهرت (شاهْنامة) أبي المؤيَّد البَلْخي، ثم (شاهنامة) أبي منصور الدَّقيقي، وهما من مشاهير شعراء الدولة السامانية، واستكمل الشاعر الفارسي الكبير أبو القاسم الفردوسي (ت 401 هـ أو 403 هـ = 1010 أو 1012 م) ما بدأه البَلْخي والدَّقيقي، وانتهى من تأليف كتاب (شاهنامه) سنة (384 هـ)، وظل ينقّحه حتى سنة (400 هـ) (انظر د. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام، ج3، ص 82. أمين عبد المجيد بدوي: جولة في شاهنامة الفردوسي، ص 10 – 19).
ويمكن القول بأن الفردوسي جمع في الشاهنامة معظم ما كان في الذاكرة الفارسية من تواريخ وأساطير تتعلق بالدول الفارسية وبسِيَر ملوكها قبل الإسلام، ورغبنا في رسم صورة واضحة للمُناخ الثقافي الذي ظهرت فيه ملحمة الشاهنامة، كي نقدم الدليل على أن هذه الملحمة تمثل خلاصة ما ترسّخ في الذاكرة الفارسية بشأن تواريخ ملوك الفرس، ونجد في الشاهنامة ذكراً لكل من الضحّاك (الأزدهاق)، ولخصمه فريدون (أفريدون= أفريذون)، وللثائر كاوَه الحداد، ولكن لم يأت لا الفردوسي ولا من نقل عنهم الفردوسي على أيّ ذكر بأن الكرد كانوا من نسل أولئك الشباب الذين كانوا ينجون من القتل في عهد الضحّاك (الفردوسي: الشاهنامة، ص 10 – 16).
وإليكم خلاصة ما ذكره الفردوسي:
في البدء حكم العالَم كلَّه مَلِكٌ يُدعى جِيُومَرْت (جيومرث= گيومرت)، وهو يماثل (آدم) في خريطة الأنساب العبرانية المعتمَدة في اليهودية والمسيحية والإسلام، وكان لجيومرت ابن يُدعى سيامك، لكن أحد الجن قتل سيامك، فحزن جيومرت على ابنه حزناً شديداً، وسلّم مقاليد السلطة لحفيده أوشهنج بن سيامك، وأوشهنج هذا هو مكتشف النار، وواضع أبجديات الحضارة في العالم، صناعةً وزراعةً وتدجيناً للحيوانات، ثم تولّى الحكم بعده ابنه طَهْمُورث، فاستكمل مسيرة والده في ميدان التحضر، وكان العالم يفتقر حينذاك إلى معرفة الخط والكتابة، فحارب طهمورث الجن، وسجن كثيرين منهم وأذلّهم، فوعدوه بأن يعلّموه الخط والكتابة إذا أطلق سراحهم، وتلك كانت بداية ظهور الكتابة في العالم (الفردوسي: الشاهنامة، ص 5 – 8).
ثم حكم جَمْشيد بعد والده طهمورث، ومعنى اسمه (شعاع القمر)، وسار شوطاً واسعاً في ميدان التحضر؛ إذ تفنّن في صنع الآلات الحربية، واتخذ الكتّان والحرير والصوف للثياب، ونشر الصناعات، ومنها الصناعات الطبية، في أرجاء العالم، وكلّف الجن بأعمال شاقة، وطار إلى ممالك العالم على سرير كانت الجن تحمله (لاحظوا ما جاء في سيرة النبي العبراني سليمان حول هذه الأمور)، لكنه تجبّر وتكبّر، واستبدّ بالسلطة، فانشق ملوك الفرس الذي كانوا من أتباعه، واجتمعوا إلى الضحّاك ابن ملك العرب، ليخلّصهم من جمشيد، فتولى الضحّاك الأمر، وتغلب على جمشيد بعد صراع طويل، وقتله بالمنشار (الفردوسي: الشاهنامة، ص 9 – 10).
والضحّاك لقب، أما اسمه فهو بيوَراسب بن مِرْداس ملك العرب، وكان ملكاً صالحاً في البداية، وكان له خادم من الجن اسمه (إبليس)، وكان يظهر في شكل شاب جميل، وأغرى إبليس الضحّاك بقتل والده، لفرض حكمه على العرب أجمعين، لكن الضحّاك تردّد، ولم يوافق على ذلك رغم وسوسة إبليس له. وذات ليلة خرج الأب مرداس يمشي في بستان له، فوقع في بئر مغطاة بالحشيش، فطمرها إبليس بالتراب، وهكذا أصبح الضحّاك ملك العرب (الفردوسي: الشاهنامة، ص 10).
ولم يكتف إبليس بالخلاص من الأب، وإنما ظهر في شكل طبّاخ، وتولّى شؤون المطبخ الملكي، وتفنّن في صنع الأطعمة، فأُعجب به الضحّاك، وأراد مكافأته، فسأله: ماذا تطلب؟ فطلب الطبّاخ (إبليس) أن يقبّل منكبيه، فوافق الضحّاك، وما إن قبّل الطبّاخ منكبَي الضحّاك حتى غاب عن الأبصار، وظهر على كل منكب من منكبي الضحّاك حيّة سوداء أرعبت الملك والحاشية، ونصح الأطباء الضحّاك بقطع الحيتين، لكنهما كلما قُطعتا نبتتا من جديد، وهنا ظهر إبليس متنكراً في زيّ طبيب، وأقنع الضحّاك بأن هذا قدر من الله، ولا بد من تغذية الحيتين بأدمغة الناس، كي يخفّ أذاهما؛ وكان غرض إبليس من ذلك أن يسفك الضحّاك دماء الناس، ويبيد الجنس البشري، وقد أصدر الضحّاك الأمر بقتل رجلين كل ليلة، وتقديم دماغيهما طعاماً للحيتين (الفردوسي: الشاهنامة، ص 11 – 12).
وبعد فترة طويلة من ظلم الضحّاك تنبّأ أحد المنجّمين الحكماء بأن مُلكه سيزول على يدي ملك اسمه أفريدون (فريدون)، لمّا يولد بعدُ، فصُعق أفريدون، ونشر رسله في أطراف البلاد لترقّب ولادة ذلك الطفل، والمبادرة إلى قتله فور ولادته، وفي تلك السنة ولد أفريدون، وكان والده من جملة الذين قتلهم الضحّاك لإطعام الحيتين، وخافت عليه والدته من شر الضحّاك، فهربت به إلى مرج تكسوه الخضرة، ويخص راعياً كانت له قطعان كبيرة من الغنم والبقر، فتعهّد للأم بتربية أفريدون، ولاحظوا الشبه بين قصة أفريدون وشخصيات شهيرة أخرى:
– سَرْجون الأول الأكادي: حملت به أمه الكاهنة سِفاحاً، ولما ولد جعلته في سلّة مطليّة بالقار، ووضعت السلة في النهر، فالتقطه البستاني (أكي)، وربّاه واتخذه ابناً (توماس طمْسُن: الماضي الخرافي، ص 511 – 512).
– النبي العبراني موسى: خبّأته أمه ثلاثة أشهر خوفاً من أن يقتله فرعون، ثم وضعته في صندوق صغير مطليّ بالقار، ووضعته بين الأعشاب بجانب نهر النيل، فوجدته جواري ابنة فرعون وهو يبكي، فرقّت له الأميرة الفرعونية، فتبنّت رعايته. (العهد القديم، سفر الخروج، الأصحاح 2، الآيات 1 – 10).
– كورش الثاني الأخميني: والده قمبيز، وأمه ماندانا ابنة الملك الميدي الأخير أستياگ، وقد رأى الملك الميدي حلماً غريباً يتعلق بابنته ماندانا، وفسّر المنجّمون الحلم بأن ابنته ستلد طفلاً، وسيخلعه حفيده ذاك من السلطة، ويحكم بدلاً منه، فقرر أستياگ الخلاص من الطفل فور ولادته، ولما ولد الطفل كلّف أستياگ القائدَ الميدي الكبير هارباگ (هارباجوس) بتلك المهمة، فدفع هارباگ الطفل إلى الراعي ميثرادات (معناه: هبة الإله ميثرا) ليقتله، لكن زوجة الراعي رقّت للطفل، ونصحت زوجها بعدم قتله، وبتربيته وتبنّيه، ففعل الراعي ذلك (هيرودوت: تاريخ هيرودوت ص 82- 83. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 87)
وبعد ثلاث سنوات استلمت الأم ولدها أفريدون من الراعي، وهربت به إلى بلاد الهند، وقصدت جبلاً عالياً، فرعاه أحد الرهبان هناك، وعلّمه مكارم الأخلاق، ثم زار أفريدون أمه، وقرر الثأر لوالده من الضحّاك، فنصحته والدته بالتريّث، وخلال تلك المدة كان اسم أفريدون يقلق الضحّاك ويرعبه، وفجأة قاد الحداد كاوَه (جاوه= گاوه) ثورة عارمة ضده، إذا كان أحد أبنائه قد اختير ليكون دماغه طعاماً للحيتين، وأخذ كاوه قطعة جلد كان يغطي بها قدمه حينما كان يطرق الحديد، ورفعها على عصا، واتخذها راية، وسمّيت (دِرَفْش گاويان)، وراح ينادي بطاعة أفريدون، وقاد أفريدون الثورة على الضحّاك، وانتصر عليه، وجلس على عرش بلاد إيران، واقتاد الضحّاك إلى مغارة في جبل دُنْباوَنْد، وسجنه هناك، كي يُعذَّب هناك إلى يوم القيامة (الفردوسي: الشاهنامة، ص 14 – 18).
ومرة ثالثة لا نجد أيّ ذكر للكرد في قصة الضحّاك.
رواية ابن الأثير
ابن الأثير الجَزْري (عزّ الدين ت 630 هـ = 1233 م) مؤرخ مشهور، جمع في كتابه معظم المعلومات التي ذكرها كبار المؤرخين قبله في كتبهم، وها هو ذا يقول: ” ولا أقول: إني أتيت على جميع الحوادث المتعلقة بالتاريخ، … ولكن أقول: إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، ومن تأمله عَلِم صحة ذلك ” (الكامل في التاريخ، ج1، ص 2).
وقال ابن الأثير في مكان آخر من مقدمة كتابه بشأن منهجه: ” على أني لم أنقل إلا من التواريخ المذكورة، والكتب الشهيرة، ممن يُعلَم بصدقهم، وصحّة ما دوّنوه، ولم أكن كالخابط في ظَلْماء الليالي، ولا كمن يجمع الحَصْباء واللآلي “. (الكامل في التاريخ، ج1، ص 3).
وقد ذكر هذا المؤرخ المحقق معظم الأخبار المتعلقة بالضحّاك وكاوه (كابي) وأفريدون، واتخذ روايات الطبري أصلاً، وضم إليها ما جاء في المصادر الأخرى، فذكر أن بِيوَراسْب هو الأزدهاق، وقال: ” وأهل اليمن يدّعون أنّ الضحّاك منهم، وأنه أول الفراعنة، وكان مَلك مصر لما قدِمها إبراهيم الخليل، والفرس تذكر أنه منهم، وتنسبه إليهم، وأنه بِيوَراسْب بن أرْوَنداسْب بن رينكار بن وَنْدْرِيشْتَك بن يارين بن فروال بن سيامك بن ميشى بن جيومرث ” (الكامل في التاريخ، ج1، ص 74). وذكر ابن الأثير قصة الحيتين، وثورة كابي (كاوه)، وتأييده لأفريدون، وانتصار الأخير على بيوراسب، وحبسه في جبل دُنباوند (الكامل في التاريخ، ج1، ص 75).
وأضاف ابن الأثير قائلاً:
” وبعض المجوس تزعم أنه [أفريدون] وكّل به قوماً من الجن. وبعضهم يقول: إنه لقي سليمان بن داود، وحبسه سليمان في جبل دُنباوند، وكان [دنباوند] ذلك الزمان بالشام، فما برح بيوراسب بحبسه يجرّه حتى حمله الى خُراسان، فلمّا عرف سليمان ذلك أمر الجنّ فأوثقوه [الجبل] حتى لا يزول، وعملوا عليه طِلَّسْماً كرجلين يدقّان باب الغار الذي حُبس فيه أبداً؛ لئلا يخرج، فإنه عندهم لا يموت. وهذا أيضاً من أكاذيب الفرس الباردة، ولهم فيه أكاذيب أعجب من هذا تركنا ذكرها ” (الكامل في التاريخ، ج1، ص 76).
وقال ابن الأثير أيضاً:
” وبعض الفرس يزعم أن أفريدون قتله يوم النّيروز، فقال العجم عند قتله: إمْرُوز نَوْرُوز، أي استقبلنا الدهر بيوم جديد، فاتخذوه عيداً، وكان أسره يوم المِهْرَجان، فقال العجم: آمَد مِهْرَجان، لقتل من كان يذبح ” (الكامل في التاريخ، ج1، ص 76).
ويقول ابن الأثير أخيراً:
” وإنما ذكرنا خبر بِيوَراسْب ها هنا لأن بعضهم يزعم أن نوحاً كان في زمانه، وإنما أرسل إليه والى أهل مملكته، وقيل: إنه هو الذي بنى مدينة بابِل ومدينة صُور ومدينة دمشق ” (الكامل في التاريخ، ج1، ص 77).
ومرة رابعة لا نجد أيّ ذكر للكرد في قصة الضحّاك.
رواية القَلْقَشَنْدي
القَلْقَشَنْدي (أحمد بن علي ت 821هـ = 1418 م)، باحث مصري موسوعي، عُني في كتابه (صُبح الأعشى في صناعة الإنشا) بذكر معلومات تفصيلية – إلى حد ما- عن طبقات ملوك بلاد آريانا (إيران) قبل الإسلام (الڤيشداديون، الكيانيون، الأشغانيون، الساسانيون)، وقد ذكر الضحّاك، وصنّفه ضمن ملوك الطبقة الأولى، وهي طبقة الملوك الڤيشداديين (بيشداذ)، وأنه صار ملكاً بعد جمشيد (جمشيذ)، وقال: ” ويُعرف بالدهاك، ومعناه عشر آفات، والعامة تسميه الضحّاك؛ ومَلَكَ جميع الأرض فسار بالجَوْر والعَسف، وبسط يده بالقتل، وأحدث المُكوس والعُشور [الضرائب]، واتخذ المغنين والملاهي “. (القلقشندي: صبح الأعشى، ج 4، ص 410).
وعاد القلقشندي مرة أخرى إلى ذكر قصة الضحّاك حينما ذكر دين الزردشتية (المجوسية حسبما وضّح)، فقال بشأن المجوس: ” ويسخطون على بِيوَراسْب؛ وهو رابع ملوكهم: وهو الضحّاك، يقال له بالفارسية: الدهاش، ومعناه عشر آفات “، وذكر القلقشندي قصة الحيتين، وإطعامهما من أدمغة الناس، وثورة كاوه (كابي/ كابيان)، وانتصار أفريدون على الضحّاك. (القلقشندي: صبح الأعشى، ج 13، ص 297 – 298).
ومرة خامسة لا نجد أيّ ذكر للكرد في قصة الضحّاك.
ويبقى السؤال المهم: أين هي الحقيقة إذاً؟
هذا سيكون موضوع الحلقة القادمة.
المراجع
1. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.
2. أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1977.
3. الدكتور أمين عبد المجيد بدوي: جولة في شاهنامة الفردوسي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1976.
4. توماس طُمْسُن: الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)، ترجمة عدنان حسين، قَدْمُس للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2001.
5. الدكتور حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1973.
6. الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1986.
7. الطبري: تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.
8. الفردوسي: الشاهنامة، ترجمة سمير مالطي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1986
9. د. فيليب حتي، د. أدوَرد جرجي، د. جبرائيل جبّور: تاريخ العرب، دار غندور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثامنة، 1990.
10. ابن قتيبة الدينوري: المعارف، تحقيق محمد إسماعيل عبد الله الصاوي، دار المعارف، القاهرة، ، 1969.
11. القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987.
12. المسعودي: التنبيه والإشراف، دار التراث، بيروت، 1968.
13. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973م.
14. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991م.
15. هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1969.
16. الهمذاني (ابن الفقيه): البلدان، تحقيق يوسف الهادي، عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1996.
17. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.
وإلى اللقاء في الحلقة السابعة
د. أحمد الخليل في 20 – 12 – 2008
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=35470