-1-
منذ سيطرتها على مقاليد الحكم في دمشق فرضت الإدارة الانتقالية (الحكام الجدد) حظراً على نشاط الأحزاب في البلاد، وإذا كان القرار قد صدر بحل جميع أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، إلا أنه واقعياً تم فرض الحظر على جميع الأحزاب بحجة أن الفترة الانتقالية لا تتوافق مع نشاط الأحزاب السياسية.
إن مقولة “فترة انتقالية بدون أحزاب” مقولة خطيرة للغاية، ومعادية للتعددية وللإدارة الديمقراطية لشؤون البلاد، ذلك أنها تترك الحكام الجدد فقط يقررون مستقبل سوريا في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه ديكتاتورية سوداء تمنع الشعب السوري من تقرير مصير بلاده، وتغييب الشعب عن السياسة، وتقود بالتالي إلى تفرد هيئة تحرير الشام وحلفائها من الأخوان المسلمين والفصائل الإرهابية الأخرى، بما فيها الفصائل غير السورية (وجميعها في سدة الحكم ومركز القرار ولم تقم بحل نفسها) بتقرير مصير البلاد. إن مثل هذه السياسة ليست غريبة على الشعب السوري حيث عملت جميع الدكتاتوريات التي مرت على الحكم في سوريا على إضعاف دور الأحزاب التي قدمت قياداتها وقواعدها أثماناً باهظة من الإعدامات والتعذيب الوحشي في السجون والمعتقلات، ولكن تلك الدكتاتوريات لم تنجح في القضاء عليها، وبالتأكيد فإن السلطة المؤقتة حالياً لن تنجح في أيضاً.
إن حظر الأحزاب السياسية مناف تماماً مع تاريخ سوريا، ومع طبيعة الشعب السوري الذي تميز بالنشاط السياسي الحزبي على امتداد تاريخه، وهذه ميزة كبرى تقتضيها تطور الشعوب وتتفق مع التقاليد الديمقراطية، وتسحب زمام المبادرة من التشكيلات ما قبل الوطنية، إذ عندما تقارن هذه الحالة مع تطور الشعوب والدول التي حققت قفزات من التقدم في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية نرى أن الأحزاب السياسية هي التي تقف وراءها وليس الحكام، سواء كانوا في مرحلة انتقالية أو في أية مرحلة أخرى، ثم أن الأحزاب السياسية في سوريا لم تنبع من فراغ، أو من الرغبة الشخصية لشخص ما أو لعدد من الأشخاص، وإنما اقتضى وجودها ضرورات حياتية للشعب والمجتمع في جميع أوجه الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وبالتالي يبقى حظرها بمثابة وضع العصي في عجلات التطور وتحقيق أهداف الشعوب والمجتمعات.
لا تستطيع أية سلطة مهما كانت غاشمة من إيقاف تطور الشعوب، نعم إنها تستطيع عرقلته من خلال القمع والاضطهاد بجميع أشكاله، ولكن القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ستتابع مسيرتها، وستدفع الأثمان اللازمة لأنها حركة التاريخ التي لا يمكن إيقافها.
-2-
تقيم الإدارة الانتقالية في سوريا شبكة من العلاقات الدولية والإقليمية والعربية، ولكن عبر أشكال متناقضة، فهي إذ تقيم علاقات مميزة ووثيقة مع تركيا تسمح لها بالسيطرة على جميع مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية في البلاد، فإنها من جهة أخرى تقيم علاقات مع المحيط العربي، وبخاصة مع دول الخليج بالرغم من تناقضات تركيا مع تلك الدول العربية، لأن تركيا تمارس من جهة سياسة العثمانية الجديدة وتعتمد من جهة أخرى على جماعة الأخوان المسلمين العالمية، بينما العرب لا يقبلون باستبدال إيران بتركيا كما ترفض التعامل مع حركة الأخوان المسلمين لأن تركيا مع هذه الحركة تشكل خطراً عليها، وتفاوض الإدارة الانتقالية إسرائيل على أعلى المستويات، وتحقق هذه المفاوضات الكثير من التقدم والتوافق بين الطرفين، غير أن الإدارة المؤقتة تخفي كامل نتائج تلك المفاوضات عن الشعب السوري وكأن لا علاقة للشعب السوري بذلك، وطار وزير خارجية الإدارة الانتقالية إلى واشنطن لإجراء مفاوضات مع مؤسسات الإدارة الأمريكية ولا بيان عن النتائج، وكذلك بالنسبة لرئيس الإدارة الانتقالية نفسه الذي ذهب إلى الولايات المتحدة لإلقاء كلمة سوريا في الجمعية العامة للأمم المتحدة وأجرى خلال هذه الزيارة العديد من اللقاءات مع الجهات المؤثرة في السياسة الأمريكية، وأيضاً مع بعض رؤساء الدول، ولا يعرف الشعب السوري شيئاً عن تلك النتائج.
يبدو أن كل ذلك يشكل أمراً طبيعياً مع قرار الإدارة الانتقالية (من يحرر يقرر)، ولكن ماذا يقرر، وأين موقع الشعب السوري بجميع مكوناته وقواه السياسية والاجتماعية من تلك القرارات التي تمس حياته ووجوده؟ خاصة أن هذه الإدارة لاتزال إدارة مؤقتة، ووفق كل القوانين الدولية والمحلية هي ليست مخولة بقبول أو التوقيع على قرارات رئيسية وحاسمة تتعلق بمصير الشعب السوري.
-3-
يستمر سلوك الإدارة الانتقالية المتناقض بهذا الشكل في جميع مواقفها، وبخاصة في مجال إعادة بناء الدولة السورية التي يطالب بها جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم وأطيافهم، فبدلاً من إعادة خلق الثقة بين مكونات الشعب السوري تسير الإدارة الانتقالية بعكس ذلك، وبدلاً من إرساء أسس الأمن والاستقرار وخلق حوار وطني عام تقوم العصابات المنفلتة المرتبطة بها بأعمال القتل والتصفيات الجسدية وأعمال الخطف وبخاصة للنساء، وتجري هذه الممارسات بشكل واسع في محافظتي حمص وحماة والساحل السوري ضد الطائفة العلوية والمناطق ذات الأغلبية الدرزية في ريف دمشق ومحافظة السويداء، كما تجري في دمشق وحلب ويتم التضييق على المسيحيين، وإجلاء واسع للعلويين من دمشق، ويضاف إلى كل هذا المجازر الواسعة النطاق ضد العلويين التي جرت في الساحل السوري ومحافظة السويداء التي فاقت التصور ووصلت إلى مستوى جرائم حرب ضد الإنسانية وفق لجان التحقيق الدولية.
إذا كانت تلك الممارسات منافية لحقوق الإنسان وقيمه العليا، سياسة بغيضة وجرائم ضد الإنسانية ويجب محاسبة المسؤولين عنها، فإنها من جهة أخرى تضر بوحدة البلاد وتتنافى مع إرادة الشعب السوري، وتتطلب فتح حوار وطني حقيقي يشارك فيه ممثلو جميع المكونات السورية والقوى والأحزاب السياسية دون إقصاء، وإلغاء الإعلان الدستوري الذي يخالف إرادة أغلبية الشعب السوري، وإقامة حكومة مؤقتة تشارك فيها كل مكونات الشعب السوري، وإجراء انتخابات ديمقراطية لمجلس الشعب.
-4-
في إطار هذا الوضع المزري في البلاد جاءت اتفاقية /10/ آذار بين الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية ورئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع التي تتضمن العديد من النقاط الهامة التي تؤدي إلى نشر الأمن والاستقرار، وخلق المقدمات التي تؤدي إلى خلق الثقة بين السوريين مثل وقف الأعمال القتالية على جميع الأراضي السورية، وإعادة جميع المهجرين والنازحين إلى بيوتهم بشكل آمن، وإدماج جميع الفصائل المسلحة في وزارة الدفاع السورية وغيرها من النقاط، غير أن الإدارة الانتقالية تحاول بكل وضوح التنصل من تلك الاتفاقية، فهي لم تنفذ أياً من بنودها سوى ما جرى من توافق بخصوص حيي الشيخ مقصود والأشرفية، وحتى في هذه لازالت قوات الإدارة الانتقالية تخلق العديد من المشاكل بشأنها، ومن حين لآخر تقوم فصائلها بالاعتداء على نقاط قوات سوريا الديمقراطية كما هو الحال في منطقة دير حافر شرق مدينة حلب، وكل ذلك بضغوط وتوجيه من دولة الاحتلال التركي.
في مثل هذه الظروف المضطربة تطالب الإدارة الانتقالية بحل قوات سوريا الديمقراطية وانضمامها إلى وزارة الدفاع السورية كأفراد، وضم مؤسسات الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا إلى مؤسسات الإدارة الانتقالية والتخلص من كل من قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية الديمقراطية دفعة واحدة، وكأن شيئاً لم يكن وأن دماء عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى قد ذهبت هدراً.
إن قوات سوريا الديمقراطية ليست فصيلاً مسلحاً فحسب، وإنما هي جيش منظم وقوي ومسلح جيداً وهي الآن تشكل الأمل لمعظم السوريين، حاربت تنظيم داعش الإرهابي وجميع المجموعات المسلحة الإرهابية بما في ذلك جبهة النصرة (هتش) وانتصرت عليها، في وقت كان فيه الجولاني والشيباني يعملان تحت قيادة أبو بكر البغدادي والزرقاوي، وقضت على دولة الخلافة الإسلامية المزعومة، أما جيش الإدارة الانتقالية فهو عبارة عن فصائل إرهابية موصوفة وموضوعة على قوائم الإرهاب الدولية، فكيف سينضم قسد إلى تلك الفصائل؟ قسد تقبل الانضمام إلى وزارة الدفاع ككتلة مستقلة تقوم بحماية مناطقها، وفي الوقت نفسه لن تنضم مؤسسات الإدارة الذاتية إلى مؤسسات الإدارة الانتقالية، والحل الوحيد هو أن تكون سوريا دولة ديمقراطية تعددية لامركزية سياسية (فيدرالية) تكون لكل إقليم حكومته المحلية التي تمتلك مجالسها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وباقي مؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبدون ذلك فإن الإدارة الانتقالية بفصائلها الإرهابية ستقوم بإبادة مكونات شمال وشرق سوريا وبشكل خاص إبادة الكرد.
افتتاحية طريق الشعب
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=77062