الخميس, نوفمبر 21, 2024

سليفــان (مَيَّـافَارقِـين) .. لمحــات مـن التاريـخ والجغرافيـة والتراجـــم

الدكتور محمد علي الصويركي

لم يقف سيف الدولة متفرجاً إزاء ما كان يجري في مجلسه من مناقشات أدبية وعلمية، وإنما كان عنصراً فاعلاً فيه، فقد كان ذواقاً للشعر والأدب، إذ كان نفسه شاعراً، حيث قال شعراً جميلاً ولا سيما في ميدان (الشعر الوجداني)، وفي (الأخوانيات). ومن شعره في زوجته الرومية الأصل التي أسكنها في بعض حصونه:
راقبتني العيون فيك فأشـفقت
ولم أخل قط من إشفـاقي
رب هجر يكون من خوف هجر
وفراق يكون من خوف فراق
و قال في جارية رومية وقعت أسيرة في إحدى الغزوات وكانت ابنة لأحد الأمراء:

أقبّله على جزع = كشرب الطائر الفزع
رأى ماءً فأطمعه = وخاف عواقب الطّمع
وصادف فرصة فدنا = ولم يلتذّ بالجزع
وله:
مقيم على هجري كأني مذنب
فما تنفع الشكوى إليه ولا العتب
تجنّى عليّ الذنب والذّنب ذنبه
وعاتبني ظُلماً وفي شقِّة العتبُ
وأعرض لما صار قلبي بكفّه
فهلاّ جفاني حين كان لي القلبُ
إذا برم المولى بخدمة عبده
تجنّى له ذنباً وان لم يكن ذنبُ
ومن (الإخوانيات) ما كتبه إلى أخيه ناصر الدولة الذي ظلمه فقال:
رضيت لك العلياء وقد كنت أهلـها
وقلت لهم بيني وبـين أخي فرقُ
ولم يكن بي عنها نكول وإنـــما
تجافيت عن حــقّي فتمّ لك الحقُّ
ولابدّ لي من أن أكون مُصـــليّاً
إذ كنت أرضى أن يكون لك السّبقُ

نهاية حزينة

وفي سنة 350هجري /961 ميلادي ، نقل الملك رومانوس، ملك الروم ، إلى حرب المشرق، نقفور بن الفقاس الدمستق ( اسمه باللاتينية نكفور فوكاس )، فقصد مدينة حلب في هذه السنة، وسيف الدولة بها، وقيل: إن عدد رجاله بلغ مائتا ألف فارس، وثلاثون ألف راجل ، وثلاثون ألف صانع لهدم الأسوار، وأربعة آلاف بغل عليها أسياخ حديد، يسوره حول عسكره ليلاً.
والقى بهم سيف الدولة خارج مدينة حلب، فانهزم الحلبيون، وقتل وأسر منهم جماعة كثيرة.
وكان سيف الدولة راكباً على فرس له ، فانهزم مشرقاً ، حتى بعد عن حلب، ثم انحرف إلى قنسرين ( وهي قرية العيس حاليا من نواحي الزربة )، فبات بها.
وأقام الروم محاصرين حلب حتى دخلوها. واستولوا على دار سيف الدولة، وأخذ الدمستق منها خلقاً من النساء والأطفال، وقتل معظم الرجال، ولم يسلم منه، إلا من اعتصم بالقلعة. وقتوا من الأسرى اثني عشر ألف أسير. وأقام نقفور بحلب ثمانية أيام ينهب، ويقتل، ويسبي ، باطناً وظاهراً. وخرّب القصر الذي أنشأه سيف الدولة بالحلبة ( جبل المشهد )، وأحرق جامع حلب كان يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء، وأكثر الأسواق، ودار سيف الدولة، وأكثر دور المدينة.
وخرج منها سائراً إلى القسطنطينية سنة 351هـ/962م، وسار بما معه، ولم يعرض للقرى التي حول حلب .وكان عدد من سبى بضعة عشر ألف صبي وصبية، وأخذهم معه.
أما سيف الدولة فإنه لما رحل الروم عن حلب، عاد إليها ودخلها في ذي الحجة سنة 351 /962 م .
وسار إلى ديار بكر بالبطارقة الذين أسرهم سابقاً ، ليفادي بهم، ففدى أبا فراس ابن عمه، وجماعة من أهله، ومن كان بقي من شيوخ الحمصيين والحلبيين.
ولما لم يبق معه من أسرى الروم أحد ، افتدى بقية المسلمين ، كل رجل باثنين وسبعين ديناراً، حتى نفد ما كان معه من المال. فافتدى الباقين، ورهن عليهم ، وعمر ما خرب من حلب، وجدد عمارة المسجد الجامع، وأقام فيها .
لقد شكل استيلاء البيزنطيين على مدينة حلب بداية النهاية في حياة سيف الدولة، فقد حزن على ما أصابها حزناً شديداً، وترك في قلبه جرحاً عميقاً، بحيث لم يمض عام على هذه (النكبة) (352هـ /962 م) حتى أصيب سيف الدولة بشلل نصفي (الفالج) وبطل شقه النصفي، ثم قويت علته بالفالج، وقيل: توفي بعسر البول، وكان بشيزر، فوصل إلى حلب ، فأقام بها يومين أو ثلاثة، وتوفى يوم الجمعة (25 صفر 356 هـ = 10من فبراير 967 م) ، وهو في الثالثة والخمسين من عمره. وإنطفأت في حلب الشعلة الوقادة التي أضاءت الشام والجزيرة لفترة مباركة من الزمان وخمدت جذوة التي أحرق لهيبها أعداء الإسلام فحنط جسده، ونقل إلى مسقط رأسه في مدينة ميافارقين، حيث دفن في مقبرة والدته الكردية، وأودع قبره ، بعد أن وُضع رأسه – بناء على وصيته – على لبنة كانت قد صنعت من (نفض غبار غزواته) الذي كان يجتمع عليه في معاركه ضد البيزنطيين، وبموته انطفأ نجم مضيء من قادة الجهاد ونكس علم خفاق من أعلام الإسلام.
لقد أفل نجم الدولة الحمدانية في حلب بعد وفاة سيف الدولة، لأن أولاده وأحفاده لم يحافظوا عليها كالرجال، وإنتهى أمرها بالخضوع إلى الفاطميين في مصر عام 992هـ/1003 م. حقيقةً كان سيف الدولة أميراً استثنائيا في فترة مهمة من تاريخ العرب وحضارتهم(1).

إعداد: الدكتور محمد علي الصويركي

===========
(1) أعيان الشيعة 8/269 ـ 281 ، الموسوعة الإسلامية 5/252 و253 ، الكنى والألقاب 2/308 و309 ، وفيات الأعيان 3/ 401 ـ 406 ، اللباب 1/386 ، الوافي بالوفيات 21/191 ـ 197 ، تاريخ ابن خلدون 4/307 وراجع فهرسته ، المنتظم 14/185 ، شذرات الذهب 3/20 ، المورد 5/64 ، الثعالبي: يتيمة الدهر 1/37 ـ 56 ، البداية والنهاية 11/281 وراجع فهرسته ، العبر 2/98 ، الأعلام 4/303 و304 ، سير أعلام النبلاء 16/187 ـ 189 ، صبح الأعشى 5/416 و455 وراجع فهرسته ، الكامل في التاريخ ج8 وج9 راجع فهرسته ، دائرة المعارف للبستاني 10/326 ـ 328 ، دول الإسلام ص197 ، تاريخ أبو الفداء 3/135 و136 ، تهذيب سير أعلام النبلاء 2/167 ، النجوم الزاهرة 4/16 ـ 18 ، محمد راغب الطباخ: أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء 1/229 ـ 265 ، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2/81 ، دائرة المعارف الإسلامية 12/476 ـ 478 ، مرآة الجنان 2/360 ـ 365 ، تاريخ التراث العربي لسزكين المجلد الثاني الجزء الرابع ص13 ، معجم أعلام الشيعة ص304 و305 ، تاريخ الأدب العربي لعمر فروخ 2/483 ـ 486 ، الأعلام بوفيات الأعلام ص152 ، نسمة السحر 2/416 ـ 420 ، وأحمد عدوان :الدولة الحمدانية ص 111، 297. فائق محمد حسن، من أعلام الشيعة، مجلة النبأ، العدد57، أيار 2001م.الحضارة الإسلامية لآدم متز : 1 / 5.سيف الدولة، لمصطفى الشكعة: 25. تاريخ الرسل والملوك للطبري، أحداث سنة 281 هـ. ابن الأثير: الكامل : 7 / 371. 8/10، 231، 286-287 زبدة الحلب في تاريخ حلب لابن النديم: 1 / 113.132،131، ،152، مستدرك أعيان الشيعة: 2 / 185.مروج الذهب: 2 / 3.زبدة الحلبة : 1 / 122.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية