“سوريا تعيش مرحلة أزمة سياسية أكثر من أنها تدخل مرحلة الحوار والتعافي”

التقرير السياسي – تشرين الأول/أكتوبر 2025

 شكّلت عملية طوفان الأقصى ليلة 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بداية مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، إذ أعادت توجيه مسار الصراع العربي – الإسرائيلي وبدّلت موازين القوى الإقليمية، وأسهمت في تفكيك الجبهة السياسية والعسكرية – المذهبية التي شيّدتها طهران على مدى أربعة عقود. وأدّت الحرب التي شنّتها إسرائيل ضد تلك الجبهة إلى إضعاف أذرعها في المنطقة، لا سيّما نفوذ حزب الله في لبنان وسوريا، وإلى تدميرٍ واسعٍ في غزة وانهيار البنية التنظيمية والعسكرية لحركة حماس وتراجع قدرتها على الاستمرار كقوةٍ عسكريةٍ أو كسلطةٍ محليةٍ فاعلةٍ.

ومن تداعيات هذه الحرب أيضًا السقوطُ الدراميُّ لنظام الاستبداد في سوريا كنتيجة مباشرة لتبدّل البيئة الإقليمية، أكثرَ منه ثمرةً لنضالات الشعب السوري بكل مكوناته ضد دكتاتورية النظام الممتدة منذ نصف قرن وجرائمه.

من الواضح أن هذه الحرب ساهمت في إعادة تشكيل الشرق الأوسط جيوسياسيًا، وأن آثارها ما تزال تتعمّق في معظم دول المنطقة، خاصةً بعد التمهيد لسلامٍ دائمٍ بين إسرائيل والفلسطينيين، عبر اتفاقية شرم الشيخ التي أفضت إلى الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين ومقابلهم قرابة ألفي سجينٍ فلسطينيٍ. وفي هذا السياق، تعمل الإدارة الأمريكية على تثبيت اتفاقية ترامب للسلام عبر ممارسة ضغوطٍ على الدول ذات التأثير على حماس لتفعيل بنودها التي تُرجمت في إعلان ترامب للسلام الدائم والازدهار، الذي تم توقيعه في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2025 من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية (صاحبة المبادرة)، إلى جانب الرئيس المصري والتركي وأمير قطر.

ويمثل الإعلان تجسيدًا للمبادرة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط، ويعكس توافقًا إقليميًا نادرًا على إنهاء حرب غزة وترسيخ سلامٍ شاملٍ قائمٍ على الأمن والتنمية ومكافحة التطرف، مع التأكيد على البعد الديني والإنساني للمنطقة ورفض تحويلها إلى ساحة صراعٍ دائمٍ. غير أنّ نجاح الإعلان ليس أمرًا محسومًا، إذ ما تزال البيئة الإقليمية المتوترة، وتناقض مصالح القوى الفاعلة، وضعف الثقة بين الأطراف، عواملَ قد تعرقل تطبيق بنوده وتحدّ من أثره العملي. وفي جوهره، يعبر الإعلان عن اصطفافٍ سياسيٍ جديدٍ يتجاوز الانقسام التقليدي بين المحاور، ويرسم ملامح مرحلةٍ مرشّحةٍ إمّا لترسيخ الاستقرار والتكامل الإقليمي برعايةٍ أمريكية، أو للانكشاف مجددًا على دورةٍ جديدةٍ من الصراعات في حال تعثّر التنفيذ.

ولأن الإعلان لم يُوقّع من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، فهو لا يخصّ القضية الفلسطينية فحسب، بل يُعدّ إطارًا عامًا لإعادة صياغة العلاقات الإقليمية. وتشير التقديرات إلى أن نجاح الاتفاق مرهونٌ بالوضع في سوريا، ضمن مقاربةٍ تسمح لإسرائيل بتثبيت سيطرتها على الجولان، وتوسيع نفوذها حتى تخوم دمشق، فضلًا عن تنظيم وتنسيق الهجمات على المجموعات الجهادية الأكثر تطرفًا، وقد تكون العملية الأمنية على معسكر «كتيبة الغرباء» أو ما يعرف بـ«الكتيبة الفرنسية» في منطقة حارم شمال غربي إدلب القريبة من الحدود مع تركيا يوم 20 تشرين الأول/أكتوبر الجاري أحد تعبيرات سير وتطبيق إعلان ترامب.

في موازاة خطط إدارة ترامب للسلام، كثّفت السلطة الانتقالية في دمشق تحركاتها الخارجية لتعزيز حضورها السياسي واكتساب اعترافٍ دوليٍ أوسع، بعد فترة من التردّد في التعامل معها كفاعلٍ شرعي. وقد رأت في مشاركة وفدها برئاسة السيد أحمد الشرع (رئيس المرحلة الانتقالية) في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة مطلع الشهر الجاري إنجازاً دبلوماسياً رمزياً يوحي بانفتاحٍ تدريجي تجاهها.

على هذا الأساس، اندفعت السلطة نحو سياسة انفتاحٍ خارجيٍ متسارعةٍ (ربما بإيحاء من دولٍ إقليمية فاعلة) تمثّلت في زيارة الشرع إلى موسكو في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2025، والزيارة المرتقبة لوزير خارجيتها إلى بكين التي كانت قد رفعت مستوى علاقاتها مع النظام البائد إلى الشراكة الاستراتيجية. وليس من المستغرب أن تسعى هذه الدبلوماسية لاحقًا إلى زيارةٍ مماثلةٍ لطهران، إلى جانب محاولات تصحيح العلاقة مع لبنان وإظهار حسن النوايا تجاه اتفاقيةٍ أمنيةٍ مع إسرائيل برعايةٍ أمريكيةٍ ودعمٍ خليجيٍ.

في المحصلة، تسعى هذه السلطة بكل قوتها إلى كسب رضى الخارج وتعزيز موقعها الإقليمي والدولي، فيما يبقى الداخل السوري غارقًا في أزماته الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، من دون أي خطواتٍ ملموسةٍ نحو الانفراج السياسي والانفتاح على الشعب مصدر الشرعية. وهذا الخلل في التوازن بين الداخل والخارج انعكس في مؤشرات على تجاوز صلاحياتها كسلطة انتقالية في بعض الملفات، ولا سيّما ما يتعلق بالاتفاقات الأمنية أو التفاهمات ذات الطابع السيادي، أو التسريبات عن تقديم تنازلاتٍ لروسيا في الزيارة الأخيرة لموسكو، ما يعكس تغليب مصلحة السلطة واستمرارها على مقتضيات المرحلة الانتقالية واحتياجات المجتمع.

وفيما يخص العلاقة مع الكُرد وقضيتهم والإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، فإن السلطة تتعاطى معها من منظور تركي ضيّق لا من منظور سوري، مستمرةً في خطاب التشكيك والتحريض القومي ووصف المطالب الكردية بالدعوات الانفصالية، لتأليب الرأي العام العربي ضد الكُرد ووجودهم على أرضهم التاريخية بما يعكس عقلية إقصائية تتناقض مع متطلبات المصالحة الوطنية. وقد برز هذا النهج بصورة أوضح في التجاهل المتعمّد لمعاناة سكان المناطق الكردية المحتلة الذين يعيشون منذ سنوات تحت ظروفٍ إنسانية وأمنيةٍ بالغة الصعوبة نتيجة الاحتلال التركي وسياسات التغيير الديمغرافي والانتهاكات اليومية، دون أن تبادر السلطة إلى أي موقف وطني أو تحرك دبلوماسي لإنصافهم أو الدفاع عن حقوقهم.

في المقابل، كشفت التطورات الأخيرة عن تنامي التضامن الوطني مع المسألة الكردية، وارتفاع مستوى الوعي بأهميتها كمدخلٍ أساسيٍ لديمقراطية الدولة السورية، حتى باتت مفاوضات قوات سوريا الديمقراطية مع دمشق أحد الرهانات الوطنية لمستقبل البلاد. فمع دخول اتفاقية العاشر من آذار مرحلةً جديدةً بتشكيل لجانٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ مشتركة للتفاوض حول آلية تنفيذ بنود الدمج وإعادة الهيكلة، ومع ما رافقها من توترٍ سياسي وميداني تمثل في إغلاق المعابر من جانب السلطة الانتقالية واندلاع اشتباكات محدودة في الشيخ مقصود والأشرفية بحلب، بدت المؤشرات واضحة على غياب الجدية ومحاولات الضغط على قوات سوريا الديمقراطية بإيحاءٍ تركيٍّ. وتُبرز هذه السلوكيات البنية الراديكالية للسلطة الانتقالية التي لا تنطلق من رؤية تشاركية، بل من نزعةٍ أحادية تسعى لإعادة إنتاج المركزية القديمة بوسائل جديدةٍ، مما يهدد فرص بناء الثقة وإنجاح الاتفاق.

ومع ذلك، تبقى اتفاقية العاشر من آذار خطوةً أساسية على طريق التغيير الديمقراطي في سوريا، إذ أنّ نجاحها يعزّز فرص الانتقال السلمي ويُرسّخ أسس التفاهم الوطني بين مختلف المكوّنات. كما أن مضمونها، القائم على الشراكة والاعتراف المتبادل، ينسجم مع مطالب القوى الديمقراطية السورية.  ومن هنا، فإنّ نجاح هذا الاتفاق لا يُعدّ مصلحةً لفئةٍ بعينها، بل مصلحة وطنية عامة تمس مستقبل سوريا وتفتح الباب أمام عقدٍ اجتماعي جديد يتجاوز الانقسام ويعيد الثقة بين السوريين.

ومهما حققت السلطة المؤقتة في دمشق من مكاسب دبلوماسية على الصعيد الخارجي، إلا أن هذا التقدم يتلاشى أمام انسداد المسار السياسي الداخلي، وحقيقة تراجع الحماس الشعبي للحكم الجديد، بسبب استمراره في إهمال القضايا المجتمعية والسياسية الجوهرية، والاستفراد بالقرار وتعطيل مسار العدالة الانتقالية الحقيقية. إن التبجح الخطابي حول وحدة سوريا ورفض كل مقترحات المشاركة السياسية بذريعة خطر التقسيم لا يخفي النهج العملي التقسيمي الذي تمارسه السلطة الانتقالية ضد المكونات المتمايزة عن حاضنتها الضيقة.

ما يرجح القول بأن سوريا تعيش مرحلة أزمة سياسية أكثر من أنها تدخل مرحلة الحوار والتعافي. لذلك ستبقى المسألة السورية حبيسة ورهن المعادلات الداخلية والإقليمية، وأنّ اتفاق شرم الشيخ لا يؤكد على نهاية الحرب التي هي إقليمية في الجوهر، بل كل المؤشرات والقراءات ترجح أننا ما زلنا في منتصف مرحلة الحروب، وفي بداية مرحلة السلام. وعلى اعتبار أن حزبنا يضع في مقدمة أهدافه السلام والتعايش السلمي على كافة المستويات، فلا يمكن لنا إلا أن نكون من مؤيدي كل مساعي السلام داخل سوريا وفي جوارها القريب، ولما فيه مصلحة شعوب المنطقة في تقرير مصيرها السياسي، وتحقيق التنمية، وتوفير الكرامة والحريات.

أواسط تشرين الأول/ أكتوبر 2025

اللجنة السياسية

لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا

Scroll to Top