في منعطف بالغ الدقة من تاريخ سوريا، اختار الرئيس المؤقت أحمد الشرع أن يخوض مقامرة كبرى، لا تُراهن على المستقبل بقدر ما تُراهن على النسيان والاستهتار بمشاعر الضحايا وذويهم. بتعيينه شخصيات عسكرية متورطة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في مواقع سيادية، لا يُسيء فقط لضحايا الحقبة الدموية، بل يعيد تشكيل الدولة على أسس الجريمة ذاتها التي مزّقت البلاد.
إنه انقلاب ناعم على مبادئ العدالة الانتقالية، واستنساخ فجّ لممارسات نظام الأسد، لا بتغليف الجرائم بالصمت، بل بإسناد السلطة لمرتكبيها. فقد باتت المؤسسة العسكرية السورية الجديدة مأوى لأسماء مدرجة على قوائم العقوبات الدولية، وأخرى وردت في تقارير أممية كمسؤولين مباشرين عن القتل والخطف والاغتصاب والتعذيب.
تمّت ترقية أحمد الهايس (أبو حاتم شقرا) إلى رتبة عميد وقيادة الفرقة 86 المسؤولة عن دير الزور والرقة والحسكة. كما نال محمد جاسم (أبو عمشة) قيادة “فرقة حماة” (الفرقة 25)، بينما تسلّم سيف الدين بولاد (أبو بكر) قيادة الفرقة 76 في حلب. كما تم تعين فهيم عيسى نائبا لوزير الدفاع، دوغان سليمان عين في منصب قائد الفرقة 72، عرابة إدريس ابو غازي عين بمنصب قائد الفرقة 52 . قادة، منحوا رتب عسكرية، بسيرة ذاتية دامية لا تخفى على أحد.
محمد جاسم (أبو عمشة): عُيّن قائداً للفرقة 25، متهم بارتكاب انتهاكات في ناحيتي معبطلي وشيخ الحديد، من بينها الخطف والاغتصاب والتعذيب.
سيف الدين بولاد سيف أبو بكر: أصبح قائداً للفرقة 76، رغم إدراجه على لوائح العقوبات الأمريكية بسبب انتهاكات ارتكبها فصيله “الحمزات”، تشمل الاغتصاب والاختطاف والتعذيب.
فهيم عيسى: تم تعيينه نائباً لوزير الدفاع وقائداً للمنطقة الشمالية، وهو قائد “فرقة السلطان مراد” المتهمة بانتهاكات، والمرتبطة بجهات قومية تركية.
دوغان سليمان: عُيّن في الفرقة 72، ويواجه اتهامات بعمليات تعذيب وسرقة في ريف عفرين.
عرابة إدريس (أبو غازي): بات قائداً في الفرقة 52، ومتورط في منع عودة نازحين وعمليات خطف وتجنيد للقتال في ليبيا والنيجر.
أحمد الهايس (أبو حاتم شقرا): تولى قيادة الفرقة 86 في الشرق، ويواجه تهماً خطيرة، أبرزها قتل السياسية هفرين خلف عام 2019.
إن ما يجري لا يُمثّل فقط استخفافًا بمشاعر السوريين، بل هندسة متعمّدة لمرحلة ما بعد الجريمة، حيث يصبح القاتل ممثلًا للدولة، والمجني عليه جزءًا من هامش النسيان. كما يقول بول ريكور: “العدالة هي ذاكرة الجماعة السياسية، ونسيانها خيانة للأخلاق الجماعية.” والشرع، اليوم، يدعو علنًا إلى النسيان، ويحوّل مؤسسات الدولة إلى حصون لحماية المجرمين.
من منظور فلسفي، لا يُبنى السلم الأهلي إلا على ركيزتين: الحقيقة والمساءلة. لكن السلطة المؤقتة اختارت أن تستهل عهدها بتقويضهما معًا، مغلقة الباب أمام المصالحة، وممعنة في إنتاج دورة جديدة من العنف المنظم.
إن الشرع يراهن، على ما يبدو، على صفقة صامتة مع القوى الدولية: استقرار شكلي مقابل القبول بالأمر الواقع. غير أن هذا الرهان يغفل أن الغرب، وإن تساهل سياسيًا، لا يستطيع شرعنة قادة متهمين بجرائم ضد الإنسانية دون تقويضٍ لمنظومته الأخلاقية والقانونية.
لقد حذّر توماس هوبز من الدولة التي تُسلّم عنفها لمَن لا شرعية لهم، لأنها حينها تتحول إلى “ليڤياثان”، وحش مفترس يبتلع أبناءه. وما نراه اليوم هو إعادة إطلاق لهذا الوحش، لا في صورة طاغية واحد، بل كتوليفة من أمراء الحرب وقدامى الجلادين.
الطريق إلى الجحيم مفروش بالترقيات
ليست هذه التعيينات مجرد ترقيات عسكرية، بل إعادة تدوير لمشروع دموي، توضع فيه السلطة بيد من تمرّسوا على القتل والنهب والتهجير. إن من يُكافأ اليوم، لم يُبرّأ من ماضيه، بل يُستدعى إليه ليتكرّر.
بل الأسوأ أن أسماء هؤلاء وردت في تقارير تتحدث عن انتهاكات بحق مكوّنات بعينها، من العلويين إلى الدروز، في استهداف لا يحمل فقط طابعًا عسكريًا بل طائفيًا أيضًا، مما يهدد النسيج الوطني برمّته.
وفي ظل هذا الانحدار، يغدو صمت المجتمع الدولي بمثابة تواطؤ غير معلن. وكما قال جان بول سارتر: “لا أحد بريء عندما يصمت أمام الجريمة.” فالعدالة الانتقالية ليست ترفًا سياسيًا، بل شرط وجودي لبناء أي مشروع وطني صادق.
العدالة لا تسقط بالتقادم. وإذا كانت المرحلة تفرض أسئلة حول من يحكم، فإن السؤال الأعمق هو: بأي شرعية، وبأي منظومة قيم؟ هل نريد دولة قانون ومؤسسات، أم مشروعًا سياسيًا يُبنى على ركام الدماء والتسويات؟
هذه التعيينات ليست مجرد انتكاسة أخلاقية، بل تأسيس لمرحلة جديدة من الانتهاكات المُمأسسة، حيث تصبح الجريمة طريقًا إلى الشرعية، والمجرم رجل دولة. وهي بذلك لا تُهدد فقط مشروع العدالة، بل تُقوّض كل أمل بولادة سوريا جديدة بالفعل.
المصدر: مركز توثيق الانتهاكات في شمال سوريا
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=68522