سوريا على شفا الانقسام: دماء الأبرياء تسقي واقعاً مريراً

بقلم: جميل دياربكرلي

منذ سقوط نظام الأسد، شهدت الساحة السورية صعوداً مفاجئاً لأبو محمد الجولاني، المعروف باسم أحمد الشرع، الذي تولّى زمام الأمور إلى جانب جماعته من “المجاهدين” – خليط من مقاتلين محليين وآخرين مستوردين – يحملون معهم تاريخاً مثقلاً بالشبهات والعنف، منذ أيام جبهة النصرة وحتى هيئة تحرير الشام.

في البداية، استقبلهم السوريون بشيء من الأمل، متغاضين عن ماضيهم القاتم، ومنحوا هؤلاء القادمين فرصة لإثبات نواياهم في جلب الأمن والاستقرار. لكن الواقع خالف التوقعات، إذ جاءت هذه السلطة الجديدة محمّلةً بأجندات مشبوهة، وفتحت الأبواب أمام موجة عنف طائفي جديدة، بدأت بمجازر ضد العلويين، وتتجه الآن نحو الدروز. هذا العنف لا يمزق فقط أرواح الأبرياء، بل يهدد جوهر سوريا التاريخي، المتجذر في التنوع والتعددية.

إن الجولاني وعصبته يشكلون اليوم خطراً حقيقياً على النسيج الاجتماعي السوري. فهويتهم الفكرية المتطرفة، وولاءاتهم المرتبطة بأجندات إقليمية، تطرح تساؤلات مقلقة حول أهدافهم الحقيقية. فالمجازر التي نُفذت بحق العلويين، والتي تلوح بوادر تكرارها مع الدروز، ليست مجرد ردود فعل غاضبة، بل تعكس مشروعاً ممنهجاً يسعى إلى اجتثاث التعدد المذهبي والإثني، وفرض رؤية أحادية تتنافى مع هوية سوريا الحضارية.

في هذا المشهد المضطرب، تتشابك المصالح الدولية، وتلعب قوى إقليمية أدواراً ضبابية. فتركيا، التي طالما اعتُبرت حليفاً لبعض فصائل المعارضة، تبدو اليوم وكأنها تمهّد الطريق للجولاني كي يعتلي المشهد السياسي، مدفوعةً على الأرجح بحسابات تتعلق بالصراع الكردي ومصالحها الجيوسياسية. من جهة أخرى، تبدو إسرائيل – رغم التناقض الظاهري – أكثر تقبّلاً من قبل بعض المكونات السورية، لا سيما تلك التي تشعر بأنها الهدف القادم. في غياب الدولة الحامية، يجد البعض في تدخل إسرائيل خلاصاً، مهما بدت الفكرة صادمة.

لقد أصبحت الممارسات الوحشية لعصبة الجولاني، ومعها آلة الدعاية الإلكترونية التي لا تقل ضراوة عن الكتائب المسلحة، دافعاً لصعود نغمة تقبّل التدخلات الخارجية، بما فيها تلك القادمة من تل أبيب. في المقابل، يشكّل الموقف التركي صدمة كبرى، إذ يُنظر إلى سعي أنقرة لإعادة تدوير الجولاني وطرحه كبديل سياسي، كخيانة للتطلعات السورية، وتغليبٍ للمصالح الضيقة على حساب مستقبل البلاد.

ويبقى الموقف الأوروبي المسترزق على أبواب الشرق الضائع منه، موضع استغراب، كأن العواصم العريقة تتغافل عن رائحة الدماء المتصاعدة من أطلال الساحل السوري وحلب ودرعا وإدلب والسويداء. فقد بدأ بعضهم يتسابق على استضافة النظام الطارئ وممثليه، وكأنهم بصدد شرعنة واقع جديد دون مراجعة لما سبقه أو حتى تفحّص من يقف أمامهم. تنافس محموم على من يفتح الباب أولاً للجولاني أو من ينوب عنه، في حين ظلوا طوال سنوات يمتنعون عن استقبال الأسد ونظامه. والمفارقة هنا أن الفارق بين النظامين – برأيي – ليس إلا في الوجوه. أما المنهج، فواحد: قمع، إقصاء، واحتقار للتعدد. وكأن أوروبا اليوم باتت تمارس سياسة “تجميل الديكتاتور” بدلاً من مواجهته، بشرط أن يغيّر قناعه فقط.

إن قوة سوريا الحقيقية لا تكمن في وحدة جغرافيتها فقط، بل في إدارتها الحكيمة لتنوعها الثقافي والديني. فإذا كانت وحدة الأراضي ستُبنى على دماء مكوناتها، فما جدواها؟ ما يستحق الدفاع عنه هو الإنسان السوري، وحقه في الحياة الكريمة، في ظل فسيفساء تحترم التعدد وتقدّر الاختلاف.

إن الاستمرار في تجاهل المجازر الطائفية، والتعامل مع سوريا كملف أمني أو جيوسياسي فحسب، هو بمثابة إصدار حكم الإعدام على مستقبلها. والمجتمع الدولي مطالب اليوم بموقف أخلاقي واضح، يضع حداً لهذا النزيف، ويؤسس لحلول تضمن حقوق جميع السوريين، بعيدًا عن الإقصاء والكراهية. الصمت اليوم ليس حياداً، بل تواطؤ مع قوى الظلام التي تسعى لتحويل سوريا إلى وطن ممزق ومسلوب الهوية.

ملاحظة للمنزعجين من استعمال كلمة “جولاني”: أعتذر من أصول الكتابة، ولكن حتى اللحظة لم نعرفه إلا بـ”الجولاني”، الذي ينطبق عليه المثل الشعبي: “اسمع كلامك (الشرع) يعجبني، أشوف أفعالك (جولاني) أستغرب!”

المصدر: المرصد الآشوري لحقوق الإنسان