د. محمود عباس
لم تكن عملية «عين الصقر» اليوم في 20/12/ 2025، التي شاركت فيها القوات الأمريكية والأردنية، واستُخدمت خلالها أكثر من 100 ذخيرة دقيقة التوجيه لاستهداف أكثر من 70 موقعًا تابعًا لبنية داعش ومخازن أسلحة ومقرات عمليات في مناطق مثل بادية معدان بريف الرقة، وبادية الحماد بريف دير الزور وجبل العمور، حدثًا مفصليًا في الحرب على الإرهاب، بقدر ما كانت تعبيرًا مكثفًا عن مأزقٍ أمريكي قديم، امتلاك بنك أهداف دقيق في مقابل غياب إرادة الحسم. فالضربات الواسعة مهما بلغت دقتها، لا تصنع استراتيجية، بل تُدير خطرًا مؤجّلًا.
الرسالة التي حملتها العملية لم تكن موجّهة إلى داعش بقدر ما كانت خطابًا إلى الداخل الأمريكي والحلفاء: نحن نردّ. لكن الردّ، حين ينفصل عن مشروع اجتثاث جذري، يتحول إلى ضجيجٍ يفضح أكثر مما يردع. فقد أقرت واشنطن، عمليًا، بأنها تعرف مواقع التنظيم وبُناه منذ زمن، ومع ذلك اختارت الانتظار حتى قُتل جنودها. هنا يطرح السؤال الأخطر: لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الصيغة؟
الجواب الأقرب إلى الواقع أن السياسة الأمريكية ما تزال تُفضّل إدارة الإرهاب على إنهائه. تُضعفه حين يعلو صوته، وتترك له هامش البقاء حين يخدم توازناتٍ أكبر. وبهذه الحسابات، لا تُهزم داعش؛ بل تُعاد هندستها.
السيناريوهات الأربعة ومستقبل شرق سوريا
1- الاحتواء المؤقت (وهو الأرجح):
تتراجع هجمات داعش لفترة قصيرة، ثم تعود الخلايا متخفية في البادية أو داخل المجتمعات الهشّة. أي دورة مكرّرة من ضربات أمريكية مشتركة مع قوى إقليمية، يليها هدوء مؤقت، ثم عودة جديدة للتنظيم.
2- إعادة التدوير (وهو الأخطر):
تذوب عناصر التنظيم وخلاياه المنتشرة في بادية الشام داخل تشكيلات عسكرية محلية تابعة للحكومة السورية الانتقالية أو تحت مسميات جديدة، فتتحول من تنظيم واضح إلى شبكة غير مرئية. هنا يصبح الجندي الأمريكي هدفًا أسهل، وتغدو المناطق الخاضعة لسيطرة هذه القوات مساحة اختفاء لا مواجهة.
3- التصعيد المتدرّج (ضعيف الاحتمال):
يتطلب هذا السيناريو قرارًا سياسيًا مكلفًا ماديًا وسياسيًا، وعملًا استخباراتيًا متواصلًا، وضبطًا للأمن والتعليم والقضاء، وشريكًا محليًا موثوقًا. هذا القرار غير متوفر، ولن يتوفر في ظل حكومة انتقالية ذات خلفية جهادية.
4- الخطأ الاستراتيجي:
وهو ما تخوضه الإدارة الأمريكية الحالية فعلًا: الرهان على شركاء ذوي سجل أيديولوجي ملتبس، واستخدام شعار «محاربة داعش» غطاءً لإعادة تموضع النفوذ، ما يؤدي عمليًا إلى إعادة إنتاج التنظيم بنسخة جديدة.
وبالتالي فتبقى قوات قسد، والإدارة الذاتية، بل والحراك الكوردي عامة، الخيار العقلاني الوحيد، ففي شرق سوريا، لا يمكن فصل مكافحة الإرهاب عن سؤال، من يدير الأرض؟
وحدها قوات سوريا الديمقراطية قدّمت نموذجًا مختلفًا نسبيًا: شراكة أمنية قابلة للمساءلة، إدارة مدنية قائمة، وبيئة أقل قابلية لإعادة إنتاج التطرف. كل مسارٍ يتجاوز هذا الواقع، أو يحاول الالتفاف عليه، لا يُضعف داعش، بل يمنحه هوامش جديدة.
ويظل السؤال المتداول وبعمق، لماذا يواصل ترامب الرهان على الحكومة السورية الانتقالية؟
كما تعكس مجريات الأحداث، أن الرهان على حكومة الجولاني، وجيشه، ليس خيارًا استراتيجيًا بقدر ما هو رهان صفقاتي، فإدارة دونالد ترامب تميل إلى حلول سريعة، منخفضة الكلفة، قابلة للبيع سياسيًا. الرهان على حكومة انتقالية ذات سجلٍّ ملتبس يُغري بهذا المنطق، نقل العبء، تقليل النفقات، وتقديم صورة «تقدّم» دون الدخول في تعقيدات البناء العميق، غير أن هذا الرهان قصير النظر؛ لأن من يحمل تاريخًا إرهابيًا لا يُنتج أمنًا مستدامًا، بل يعيد تدوير العنف بأدوات جديدة.
والآن، بقدر ما سعت إدارة ترامب عبر عملية «عين الصقر» إلى إظهار القدرة العسكرية، فإنها عرّت الاستراتيجية السياسية. فالضربات الجوية لا تُنهي الإرهاب، بل تُديره، وما لم تُحسم هوية الشريك المحلي الجديد، أي حكومة الجولاني، وتُربط مكافحة داعش بإصلاح منظومات الأمن والتعليم والقضاء، سيبقى غربي كوردستان ساحة اختبار دائم، وستبقى قسد الخيار الواقعي الوحيد لمن يسعى إلى تقليل الخسائر بدل مضاعفتها.
محاربة داعش ليست مسألة ذخائر دقيقة، كما ورد في تصريحات وزارة الحرب الأمريكية، بل قرار سياسي،
إمّا اجتثاثٌ من الجذور، وإمّا إدارةٌ تُبقي الإرهاب حيًّا، باسم الردع.
الولايات المتحدة الأمريكية
20/12/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=81475




