شورش درويش

البيان الذي أصدرته القيادة المركزية  الأميركية حول الضربة الجويّة التي أفضت إلى مقتل ماهر العكال “أبو البراء الشمالي”، والذي وصفه بأنه واحد من الخمسة الكبار في قيادة التنظيم، لم يُشِر إلى أن المنطقة التي قُتل فيها العكال ومعاونه بوصفها تقع تحت سيطرة الاحتلال التركي وفصائل”الجيش الوطني”، إذ اكتفى الرسميّون الأميركيون، بما في ذلك الرئيس جو بايدن، بالإشارة إلى المنطقة التي تمّت فيها العملية بأنها وقعت بالقرب من ناحية جندريس في عفرين،شمال غربي سوريا، الأمر الذي يُفهم منه بأنها محاولة لإخلاء ساحة أنقرة تجاه مسؤوليتها حول مسألة تواجد وإيواء قادة وفلول تنظيم داعش هناك.
بدورها لم تُشِر الصحافة والإعلام الأميركيين إلى مسؤولية تركيا عن تواجد قيادات داعش في مناطق تواجدها، أقلّه مسؤوليتها التقصيريّة في عدم ضبط مناطق سيطرتها أمنياً.
ثمّة سؤال يمكن طرحه في هذا السّياق وهو، ما الذي يجعل مطلوباً على غاية من الأهمية، ومطوّراً لشبكات “داعش” خارج العراق وسوريا، أن يتواجد في مناطق سيطرة الأتراك وعملائهم السوريين حيث يسيطر “جيش الشرقية” على جنديرس ، وفي منطقة تشتد فيها الرقابة الأمنية التركية؟ كما يمكن إثارة الأسئلة التي باتت بديهية: ما الذي يجذب قادة داعش إلى المناطق التي احتلتها تركيا، وأيّ علاقة تجمع قادة داعش وفلولها الفارّة بفصائل “الجيش الوطني”؟ وكيف تمكّنت تركيا من إدماج مطلوبين آخرين في فصائل الجيش الوطني واستخدامهم غير مرّة في قتال قوات سوريا الديمقراطية؟.
في مفاضلتها الواضحة تجد تركيا أن “داعش” أخفّ ضرراً من الكرد على مشاريعها التوسعية في سوريا، وأنها أدنى أهمية على مستوى الدعاية الفاشيّة والحربيّة قياساً إلى “الخطر الكردي”؛ فالتنظيم الذي أعطى الجيش التركي جواز مرور إلى سوريا انطلاقاً من آب/أغسطس 2016 إبّان ما أسمته أنقرة عملية “درع الفرات”، لم يشهد له أن دخل في نزاع مسلّح ضد الأتراك، والجدير بالتذكير هنا تلك المشاهد التمثيلية للجيش التركي حين استولى على مناطق احتلاله الأولى في سوريا انطلاقاً من مدينة جرابلس، إذ لم يتكبّد طرفا “المعركة” خسائر تُذكر، فيما كانت بعض المشاهد لانتشار القوات التركية ومعاركها المفبركة قد مثّلت مادّة للتندّر والسخرية لدى شريحة واسعة، نظراً لرداءة تمثيل الجنود وانتشار فيديوهات كواليس بعض المعارك المزعومة.
ومن المفهوم أن اتهام واشنطن أنقرة بالتراخي أو مساعدة “داعش” سيزيد في شقّة الخلاف بين البلدين، وأن المصلحة تقتضي أن تُشير واشنطن للعملية دون الاستفاضة في شرح ملابساتها. لكن هذا المسلك الأميركي يترك الباب مُوارباً لجهة الجدوى من الحرب على داعش التي تمتلك جيباً خلفياً وعمقاً لوجستيّاً متمثّلاً بمناطق سيطرة تركيا والجيش الوطني. وفي مقابل ذلك لا تشعر تركيا بأيّ حرج أو ضرورة لشرح الأسباب التي تدفع قيادات داعش للاحتماء بمناطق سيطرتها، كما لا تجد نفسها مضطّرة لتبرير هذه “المصادفات” أو “الخروقات” إذا ما اعتبرناها كذلك.
وإذا كانت واشنطن تَعدُّ داعش خطراً على أمنها القوميّ، فإن تطويق مثل هذا الخطر يمرّ بمواجهة تركيا بالحقائق التي تقول بأن واشنطن حيّدت إلى الآن ما لا يقل عن 41 متشدّداً توزّعوا على تنظيمات داعش والنصرة وحرّاس الدين في مناطق سيطرة تركيا وحلفائها، وبالتالي فإنه دون اتباع سياسة المواجهة والمكاشفة ستبقى مسألة قول نصف الحقيقة في البيانات التي يُسطّرها البنتاغون والبيت الأبيض حافزاً لأنقرة للحفاظ على نهجها غير المكلف والمتمثّل في إيواء المتشددين الذين تبحث عنهم واشنطن.
والحال أن اعتماد واشنطن سياسة قول نصف الحقيقة  يعني أن مهمّتها في الإجهاز على داعش ستطول وستبقى رهينة السياسة التركية ودورها في مناطقها “الآمنة”، ذلك أن منطوق  السياسة التركية يمكن تلخيصه في نقطتين: الأولى أن سياسة تركيا في مواجهة كرد سوريا ترتكز على مقولة تبدو متهافتة في هذا الظرف وهي أن “عدو عدوّي، صديقي” حتى وإن كان عدو العدوّ هذا عدوّاً للولايات المتحدة أيضاً، فيما تتمثّل النقطة الثانية في رغبة تركيا مقايضة ملف مطلوبي تنظيم داعش بتخلي واشنطن عن تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية.
أياً يكن من أمر، فإن ما قاله الرئيس الأميركي في أن مقتل العكال “يحدّ بشكل كبير من قدرة داعش على التخطيط ويحرمه من الموارد وتنفيذ عملياته في المنطقة” يبقى موضع شكّ، بالنظر إلى مسألة ثابتة وهي أن التنظيمات الإرهابية لا يمكن الإجهاز عليها نهائياً طالما أنها تحظى بفرص النجاة والاحتماء في جيوب يتعذّر الوصول إليها بسهولة، ولعل التذكير بتجربتي الجوار الأفغاني والعراقي اللذين قدّما نسغ الحياة للتنظيمات الإرهابية يشي بما يراد قوله في شأن المناطق التركية “الآمنة” وما باتت تشكّله من معاقل آمنة للتنظيم.

المصدر: نورث برس

شارك هذه المقالة على المنصات التالية