الحق أن تركيا لم تتوقّف عن ممارسة الابتزاز والخوض في مساومات مع أقرب حلفائها وصولاً لجيرانها، وإمعاناً في هذه الممارسة تسعى في هذه الأثناء إلى تثبيط جهود الناتو في التمدّد شمالاً عبر إعلانها رفض قبول عضويتي فنلندا والسويد حال تقدّمهما بطلبي انضمامهما في شكل رسميّ، وإن كانت تركّز على رفض عضوية الأخيرة وتبدي موافقة ضمنية إزاء الأولى، فالبلدين اللذين سيمنح انضمامها مزيداً من الزخم والقوة للبيت الأطلسي باتا تحت رحمة الفيتو التركي، ذلك أن الحلف ساوى بين الأعضاء لتغدو عدم موافقة دولة واحدة من دوله الثلاثين كفيلة بتجميد أيّ قرار أو رفضه، وهو الفيتو الذي تحتاجه أنقرة لممارسة ابتزازها لدول التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة، عطفاً عن جني مكاسب من البلدين الاسكندنافيين مهما بلغت هزالتها.

لحسن حظ أنقرة أن دول الناتو لم تتعرّض لاعتداءات خارجية، حتى تُختبر صدقية تركيا والتزامها بالبند الخامس للحلف، ولتقتصر مهامها منذ الانضمام للناتو عام 1952 على بعض المهام ذات الطابع الشكليّ، كدورها إبان غزو أفغانستان في تأمين وتشغيل مطار حامد كرازي بالعاصمة كابل، وبعض مهام المراقبة في البوسنة والهرسك تنفيذاً لاتفاقية دايتون للسلام، إلّا أن التهرّب في المختبر الأوكراني ولجوء تركيا لالتزام الحياد والقيام بدور الوسيط الأقل كلفة، خلاف ما ذهبت إليه بقية دول التحالف، يعكس بعضاً من نظرة تركيا إلى فكرة التحالف.

لدى الناتو والولايات المتحدة نزوع لتقليص مساحة الدول المحايدة في المواجهة مع روسيا، وهذا يضاعف من اهتمامها بانضمام دول الشمال الثرية والمهمة والقادرة على إحداث فارق في قدرات الحلف، وهو أيضاً ما شجّع أنقرة للمضي في مساومة واشنطن على بيع تذكرتي العضوية بأي ثمن يمكنها أن تتقاضاه في سوريا، بالتحديد في شمال شرقي سوريا، إذ تصرّح تركيا أن اعتراضها على انضمام السويد مقترن بتوقف ستوكهولم عن دعم حزب العمال الكردستاني، وهذه الأهروجة التركية تنسحب على كرد سوريا الذين أعلنت تركيا عضويتهم جميعاً في العمال الكردستاني واعتبرت كل بوصة من المناطق الكردية السورية معقلاً للكردستاني، وبمعزل عن الموضوع الكردي، ترى أنقرة أن بإمكانها التحصّل على أسلحة ومقاتلات أميركية في مقابل موافقتها، هذا فضلاً عن رغبة العدالة والتنمية في استعراض القوّة على المستوى المحلّي مع دنوّ موعد الانتخابات الحاسمة 2023.

سبق لتركيا أن حاولت استخدام الفيتو إبان توسّع الحلف شرقاً وضمّه دولاً خارجة من المعسكر الاشتراكي في تسعينيات القرن الماضي، وقد كانت تطمح من ذلك ضمّها للاتحاد الأوروبي، بيد أنها فشلت في مسعاها إياه مثلما فشلت في الاعتراض على اختيار الدنماركي راسموسن أميناً عاماً للحلف عام 2009، وهو ما يعني أن ترجيحات تراجع تركيا عن اعتراضها هو الأقرّب للتصوّر، خاصة وأن حرمان الولايات المتحدة والناتو من أهم منضمين للحلف سيكلّف تركيا الكثير على اعتبارها البلد الوحيد الذي يفرض مساوماته بخلاف بقية أعضاء الناتو، الأمر الذي يضعف الحلف في وقت حرج.

وطلب انضمام البلدين الاسكندنافيين جاء في ظرف استثنائي، ذلك أنه لم يحصل طيلة عبور البلدين فترة الحرب الباردة ووجود حلف وارسو في الجوار، وقد جاء في ظل مخاوف وقلق وجودي بدأ يحيق بالسويد وفنلندا، خاصة وأن التهديد الروسي لهذين البلدين ووضعهما على بنك الأهداف المتوّقعة بات يُؤخذ على محمل الجد، وبالتالي فإن عرقلة أنقرة جهود انضمامهما يدخل في باب الخدمة الجليلة التي تقدّمها لموسكو في هذه الظروف، وإن كانت مراميها مختلفة عن خدمة روسيا.

واستخدام تركيا ورقة “دعم” حزب العمال الكردستاني في مواجهة السويد، وتصوير دعم ستوكهولم للقضايا الكردية بأنه “إيواء أو دعم إرهابيين” هو فوق أنه اتهام مضلّل للرأي العام، فإنه يمثّل أيضاً تدخّلاً سافراً في شؤون الدول وإخضاعها لرؤية تركيا ومصالح جماعاتها الفاشية، وقد سبق لتركيا أن غذّت نظريات المؤامرة التي اتهمت العمال الكردستاني باغتيال رئيس وزراء السويد، الاشتراكي الديمقراطي، أولف بالمه عام 1986، مستفيدة من إدراج الحكومة السويدية الكردستاني على “قوائم الإرهاب”، غير أن جلاء الحقيقة لاحقاً والكشف عن الجاني (ستيج إنغستروم انتحر عام 2000) بددت تلك النظريات التي ذهب بعضها الآخر إلى اتهام الموساد الإسرائيلي، والمخابرات المركزية الأميركية، وجهاز الاستخبارات السوفيتية، فيما انتمت أجواء نظريات المؤامرة تلك إلى ما اصطلح تسميته بـ”هوس بالمه”. وعلى أثر كشف الجاني تعالت أصوات سويدية طالبت بالاعتذار للعمال الكردستاني، وشطب اسمه من قوائم الإرهاب.

وتسعى أنقرة إلى استخدام حججها عبر المزج بين عدائها المديد للعمال الكردستاني وبين الدعم السويدي والأميركي للاستقرار في شمال شرقي سوريا. وتركّز أنقرة في مساوماتها على إخراج السويد من دائرة الدول المتضامنة مع القضايا الكردية، فيما تسعى إزاء ذلك إلى ثني واشنطن عن دعم قوات سوريا الديمقراطية، بل وأبعد من ذلك تحقيق توسّع آخر على الأرض في شمال شرقي سوريا جرياً على عادتها في المساومات.

الغالب على الظن هو تراجع تركيا عن اعتراضها، وعدم تحقيقها ما تصبو إليه في مساوماتها، لاسيما تدخلها في رسم سياسات السويد فيما خص تضامنها مع قضايا الكرد، وثنيها عن انتقاداتها لحالة حقوق الإنسان في تركيا، فالمجتمع السويدي راكم إرثاً من التضامن امتدّ على قضايا بالغة الحساسية، كالموقف من الحرب الأميركية على فيتنام، ونظام الأبهارتايد في جنوب أفريقيا، واضطهاد الكرد في العراق وتركيا وسوريا وإيران، الأمر الذي يجعل من إملاءات تركيا أقرب إلى اللّغو، في حين أن إدارة بايدن لا تبدي إلى اللحظة أيّ قبول لسياسات أردوغان الخارجية، كما لا تبدي استعداداً للانخراط في مشاريعه التوسّعية في شمال شرقي سوريا، ناهيك عن أن قبول تركيا في برنامج طائرات “إف-35” يبقى معقوداً على احتفاظ تركيا بصواريخ “إس 400” الروسية.

المصدر: نورث برس

شارك هذه المقالة على المنصات التالية