صوت الشلومية الذي لم يهن: مزكين حسكو وسرمدية الروح الكوردستانية

بوتان زيباري

يا قيثارةً كورديةً صمتت نغماتها في غُربة الألم، وروحًا حلّقت بصورها كفراشات تربسبيّ بين بيليفيلد وإيسن، كان رحيل مزكين حسكو عن عمر ناهز الثانية والخمسين، بعد صراعٍ مرير، بمثابة نكبةٍ جديدة تضاف إلى مواسم الحزن في كوردستان. لم تكن مجرد شاعرة، بل كانت جذراً يمتدّ في تربة الشلومية الطينية ليُزهر قصائد بلغة الأم، لغةٍ لم تر فيها يوماً أداةً للكتابة وحسب، بل هوية كاملة لا تقبل المساومة. لقد كرست حياتها للشعر والأدب منذ الصغر، مدركةً أن الكتابة ليست ترفاً، بل ضرورة الحياة ونافذة على الأفق الذي رسمته لنفسها ولقومها.

إن مشروعها الشعري، الذي تجلى في دواوين غنية مثل “أحرف الحب” و”الدروب المخضرة”، كان اعترافاً بقيمة الصدق الفني لا طلباً لأوسمة زائفة؛ فالقصيدة بالنسبة إليها كانت الجائزة الكبرى. من مسقط رأسها الشلومية، التي كانت لها مدرسةً كاملة تعوض ثغرات اللغة على ألسنة الصغار، استمدت إيقاعها الأول، والألفة التي صارت معياراً لكل بيت خطّته. وفي هذا تتجلى فلسفة شعرها: حيث يصبح المكان ركناً من أركان اللغة، ويتحول البيت الطينيّ إلى استعارةٍ لأوطانٍ كاملة. إن ذاكرة مزكين ليست ذاكرة حزينة ترثي الماضي فحسب، بل هي ذاكرة خصبة تعيد إنتاج الحياة والحلم، حتى في أصعب لحظات المنفى.

وفي كل ومضةٍ من ومضات شعرها، كان العلم الكوردي، آلا رنكين، أكثر من مجرد رمز؛ كان شرياناً ينبض بحب يشبه الحب الأول، يذكرها بأن الحلم بوطنٍ حرّ ما يزال حيّاً، وأن القصيدة هي الطاقة التي تمنح هذا الحلم نبضه الدائم. لقد آمنت مزكين بأن اللغة الأم هي القلعة الأولى والأخيرة التي تحمي القصيدة من الانكسار، وأن الانتماء لا يتبدد بمسافة بين تربسبي والمهجر. لقد كانت قصائدها تذكيراً دائماً بأن الوطن لا يزال ممكناً، وأن القصيدة يمكن أن تكون الجسر الذي يعيدنا إلى أنفسنا، وأن اللغة الأم هي الحياة نفسها. ولهذا، استحقت أن تكون علامةً وازنة في الأدب الكوردي الحديث، بوصفها شاعرة الليرك المتجدد، التي تملك القدرة على تحويل المنفى إلى مرصد ترى منه كوردستان أكثر وضوحاً، فكلماتها ليست حروفاً على ورق، بل جذور تمتد تحت المحيطات، لتجدد اللغة دون أن تستسلم للبلاغة الجاهزة. وفي رثائها اليوم، يرتفع صوت قصيدتها القديمة ليرسم معالم الشهيد الذي هو “سرودا آزادي” (أنشودة الحرية)؛ شيهيد هيلبيست و راماني (الشهيد قصيدة وفكر)، مؤكدةً على خلود فكرة كوردستان في الوجدان الشعري والسياسي، وأن مزكين بحد ذاتها باتت “مژگين مه گري تو بياني / سوز و پيمان كوردستاني” (مزكين لا تبكي فأنتِ لستِ غريبة، العهد والوعد كوردستاني). رحم الله شاعرة الصدق واللغة، التي جعلت من الكوردية فضاءً لصياغة الحلم، وأضاءت دروب المنفى ببراعمها الثملة بالضوء. فماذا بعدُ يمكن أن يُقال في وداع من جعلت من الشعر مصيرًا وموطنًا؟

Scroll to Top