الجمعة, فبراير 28, 2025

ظلال التاريخ وغدرة الزمان: قراءة نقدية في نوايا تركيا تجاه الأكراد

بوتان زيباري

في صمت الأزمنة المتلاحقة تتردد أنين ذكريات الأزمان، حيث يلوح في أفق الحاضر ظلٌ ثقيل من الشك والريبة حول نوايا تركيا تجاه الأكراد، تلك النوايا التي يصفها التاريخ بخيانة خالدة ووعودٍ مُزيفة. ففي دروب النضال المسلح الذي حملت أجنحته أصداء حكايات الألم والتضحية، برزت دعوات لتوديع الأسلحة وتحويل الكفاح إلى مسيرة سياسية، دعواتٍ أثارت تساؤلات عميقة عن صدق النوايا ومصير القضية الكردية. لقد كان التاريخ خير شاهد على أن كلمات السلام التي تُلفظها إدارة الدولة قد تكتنز في طياتها آثار الخيانات القديمة، إذ لم تنجح التجارب السابقة في شق طريقٍ جديد لعلاقات الأكراد مع الدولة التركية التي طالما استخدمت أدواتها الأمنية والسياسية لتحجيم الهوية الكردية.

ومن بين ريشات الماضي التي خطت تفاصيلها أيدي معاناة الشعوب، يقف المشهد السياسي على مفترق طرقٍ حرج، إذ يستوجب من الحكمة والوقار تحليل المواقف بتلك النظرة الشاعرية التي تجمع بين صرامة الواقع ونعومة الكلام. فدعت دعوات تسليم السلاح وتحول المسار السياسي في صفوف النضال إلى بادرة جريئة، ربما لم تكن إلا محاولاتٍ لإعادة كتابة تاريخٍ طويل من الألم والمقاومة، في ظل سياقٍ سياسيٍ دولي متقلب ومستمد من حيل السياسة الغربية التي طالما لعبت دور الوسيط في مفترقات الطرق. ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحًا: هل يكاد هذا التغيير أن يمثل نقطة تحول حقيقية أم أنه مجرد زيف مغلف بعباءات الخطاب الدبلوماسي؟

إننا في مواجهة مشهدٍ متشابك، حيث تتداخل الحقائق مع التوقعات، وتخوض الحكمة مع الألم، إذ لا يمكن إغفال أن التجارب السابقة في البلاد التركية ظلت شاهدة على أن الآمال المرسومة للتصالح لم تكن إلا واجهة أمامية لسياسات قمعية متجددة. فالهوية الكردية، التي طالما تخللتها مظاهر من النضال والصمود، تجد نفسها اليوم عالقة في دوامةٍ من التحفظات، لا سيما عندما تتهافت الأصوات الداعية للتسليم مع تلك التي تنذر بمآسي المستقبل في حال لم يُترجم الخطاب السياسي إلى أفعالٍ ملموسة على أرض الواقع. وفي هذا السياق، يتجلى الماضي كمُنبهٍ دائم، يُذكرنا بأن تاريخ الأجداد لا يُغتال بسهولة، وأن الوعود التي تُلفظ في ضوء الدبلوماسية غالبًا ما تكون مؤقتة مثل ضباب الصباح، تزول مع شروق الشمس دون أن تترك أثرًا دائمًا.

إن الشهادات الحية من الديار والأراضي التي شهدت انكساراتٍ متعددة، تروي حكايات عن قُرى مُحرقة وأحلامٍ مُخنقة في قلب الدولة التي لم تستطع يومًا أن تعترف بشرف وجود شعبٍ كاملٍ بتراثه وثقافته. وفي خضم هذه الدراما التاريخية، ينبثق سؤالٌ فلسفيٌّ حول حقيقة التحول السياسي؛ هل هو انعكاسٌ لنضال طويل أم أن هناك في طياته إشارةً مُضللة لاستغلال الانقسامات القديمة بما يخدم مصالح قوةٍ لا تهتم إلا بموازين القوة والمال؟ إن التجارب الواقعية في الميادين التركية، التي ما زالت تلوح في الأفق بتلك الذكريات المؤلمة، تُبرز أن الطريق إلى السلام الحقيقي يتطلب أكثر من مجرد تبادل الكلمات، بل يتطلب بناء ثقةٍ متبادلة تُزرع عبر الإصلاحات الجذرية والتغييرات السياسية العميقة التي تعيد للشعب الكردي مكانته التاريخية.

وبينما يستمر الزمن في تدوير فصوله، يظل الشك رفيق الدرب في مواجهة الوعود السياسية التي تبدو أحيانًا كسرابٍ في صحراء الانقسامات. فمنذ عقودٍ مضت، تركت تركيا بصمتها على صفحات التاريخ بخياناتٍ وقمعٍ متجدد، حتى وإن بدا لنا اليوم أن الوعود بالسلام قد أشرقت من جديد، فإن القلب الكردي ما زال يتردد صداها مع صوت التاريخ الذي يحذرنا من تكرار الأخطاء. وفي خضم هذه التناقضات، يتوجب علينا أن ننظر بعين الحكمة والحيطة، مستندين إلى شواهد الماضي التي تُثبت أن التحول الحقيقي لا يأتي إلا مع جهدٍ مشترك وإرادة لا تلين من أجل الاعتراف بالحقوق المشروعة لهويةٍ تتحدى كل محاولات الإخفاء.

إن ما نحن أمامه ليس مجرد فصلٍ من فصول السياسة العابرة، بل هو مسرحٌ دراميٌ حافلٌ بالأحداث والرموز، تتداخل فيه الدروس مع الآمال، لتشكل لوحةً فسيفسائيةً تعكس روح شعبٍ عزيزٍ على كرامته وتاريخه العريق. وقد تبقى الآمال معلقة على شفرة السيف الدبلوماسي التي قد تضيء الطريق نحو حوارٍ حقيقي، إذا ما لاقت ثمارها في إصلاحات جذرية تُعيد للأكراد مكانتهم التاريخية دون تقديم تنازلاتٍ تُخل بمبادئ الهوية والكرامة. وفي النهاية، يبقى التاريخ هو الحكم العادل الذي لا يخطئ في كشف زيف الوعود، ليُعيد رسم معالم الحقائق على صفحة السياسة المتقلبة.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية