عبد الوهاب بيراني: قراءة في كتاب “وداع الناسك الأخير”

كورد أونلاين |

تمثل تجربة عـبد الـرحمـن محمـد واحدة من التجارب المتميزة، لشعراء عقد الثورة السورية زمنياً وثورة التاسع عشر من تموز، سواء من حيث غزارة وخصوصية هذه التّجربة، التي وجدت لها مكانا محترما في الوسط الأدبي، وإن غاب النقد عن متابعتها بشكل جدي.
هي تجربة اتكأت على النشر الإلكتروني من خلال صفحات الفيس بوك والمجموعات الأدبية إلى حد ما، واستطاعت أن تثبت خصوصيتها وأن تستمر خلال العقد الماضي.
النصوص الشعرية التي انبثقت من جغرافية الثورة ومن مخاضات الثورة، والتي وجدت في رحم الثورة عوامل التجديد، واستلهمت من الثورة بعض من قسوتها وشراستها، وأيضا الكثير من جماليات الحرية في بناء النص الشعري الطافح بالأمل رغم الحزن الذي يسكن مفاصل أغلب نصوص الكتاب.
والمتأمل في هذه التّجربة، يلاحظ جنوح الشاعر إلى توظيف مفردات الحياة اليومية وعناصر أسطورية موغلة في التاريخ طارحا أسئلة ذات طابع وجودي وثوري في آن واحد، كأسئلة الموت والحياة والوجود المصير والحب والعذاب، الخيبة والأمل وما إلى ذلك، صحيح أنها أسئلة قديمة، لكن الشاعر استطاع أن يعبر عنها عبر صرخات مكتومة، أو بمعنى أكثر جرأة يمكننا وصفها بالصرخات المكبوتة، حيث  أسئلة الإنسان العميقة في محاولة لتجاوز الخطاب الأدبي السّائد المهيمن، وخاصة على صعيد الشعر، الذي ارتقى من خلال تعابيره وصوره الشعرية وأسلوبه السلس إلى قصيدة تمتلك عناصر القبول وومضات إبداعية تبشر بقصيدة مميزة ونتاج أكثر ثراءً، فنصوص عبد الرحمن محمد لم تركن لحالة الغموض، ولم تحاول أن تتوغل عميقا في بنية المعنى، فهو شاعر اعتمد الجملة البسيطة، اللغة اليومية والهواجس الذاتية التي يتشارك بها مع جموع البشر.
ثمة هاجس حياتي معيشي يبحث عن القوة والنفوذ هو ما ينزع إليه الشاعر في كتاباته وهذا التوجس أو الهاجس يكاد يكون قاسما مشتركا بين أسماء مختلفة تمارس الكتابة الشعرية على هذه الجغرافية، وضمن كينونة هذا الزمن.
حيث ترتكز اهتمامات  الشاعر عبد الرحمن محمد في كتابه المعنون بـ “وداع الناسك الأخير” إلى ترك الباب موارباً على الفجيعة السورية، وهو ما وجدناه من توصيفه لمرارة الفقد، وتعبيره عن حالات وجدانية اخذت حيزا واسعاً من مجمل نصوص الكتاب، سعى الشاعر من خلالها إلى تفجير حالات الحزن عبر تداعي الذاكرة ووصف الحاضر المثقل بالوجع من نزوح وتهجير وهجرة وموت وفقر وقلق، من خلال لغة بسيطة، ثرية بإسقاطاتها وأدواتها التعبيرية حيث الشاعر يمتلك المقدرة على إنتاج نصوص تتصدر صدق التجربة وحرارة التعبير ودقة التصوير، وحقيقة المرأة وقيمتها العليا كطرف نقي من نتاجات الطبيعة عبر لغة أنيقة دافئة، وكون اللغة شعراً أساساً، ولا يوجد كلام خارج الشعر حسب تعبير مارتن هايدغر، فإن تحليل لغة الشاعر هي مجموعة الآمال والآلام، التي تتجول ضمن بؤر دلالية يحاول الشاعر إشراكنا معه، وهو ما يتم تسميته توريط القارئ برؤى الشاعر التي ليس من الضرورة أن ترتبط ارتباطا عضويا بالعالم إلا من زاوية إعادة تركيب العالم الذي يسعى إليه الشاعر حسب فكره ومحمولاته الثقافية. والتراثية الذي يعبر عنهما في قيمة أخلاقية وفكرية، وهي أنّ فكرة الحرية، حرية التفكير، وحرية البناء والهدم والتقويض والنقد وبقدر ما يقترب الشاعر من تأويل المفردات بقدر ما يقترب من قضايا تهم أفراداً يعيشون ضمن مجتمعات لا تشبهها، وهذه إحدى أهم سمات الشعر الجديد في العقدين الأخيرين.
فالشعر أو الكتابة الشعرية مغامرة مفتوحة، وتبقى لها رهاناتها وترجيحاتها وصخبها وكمونها الغافي الذي ينتظر فرصته التاريخية ربما، كي يتفجر.
تماما هكذا هو الشعر من منظور ناسك معتزل يعيش صخب الحياة وفي عاصفة اسمها الحياة، ننام ونحيا بين ضفتيها، بين ضفتي الاستقبال والوداع.

عبد الوهاب بيراني (كاتب وناقد سوري)

​صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية