دجوار أحمد آغا
تسعى الشعوب التي احتلت أوطانها من قوى الهيمنة العالمية منذ ظهور نزعة السيطرة والتحكّم بالآخرين، من خلال منطق السلطة التي ظهرت مع ظهور الدولة القومية قبل نحو خمسة آلاف سنة في سومر، إلى المقاومة وتحرير أوطانها، وهذا الأمر ليس سهلاً، فهو يحتاج إلى من يقوم بتوعية الشعب في البداية ومن ثم تنظيم صفوفه وتوحيد الجهود لكي يستطيع مواجهة المحتل.
التوعية والتنظيم بحاجة إلى شخصيات مثقفة وذات حضور متميز ومقبول من الشعب، لتستطيع القيام بهذا الدور، وهناك أمثلة كثيرة عبر تاريخ الشعوب التي قام مثقفوها بتوعية شعوبهم وتنظيمهم وصولاً إلى مرحلة تأسيس الحركة السياسية وتوحيد صفوفها من أجل تحرير شعوبهم وأوطانهم (هو شي منه في فيتنام، وجواهر لال نهرو وغاندي في الهند، وسيمون دي بوليفار في أمريكا اللاتينية، ماو تسي تونغ في الصين) على سبيل الذكر لا الحصر، سوف نتطرق في هذا المقال إلى إحدى الشخصيات الكردية التي عملت من أجل وحدة حركة شعبها السياسية وناضلت طيلة حياتها لهذا الهدف. إنه البروفيسور “عصمت شريف وانلي”.
النشأة والبدايات
الحادي والعشرون من شهر تشرين الثاني عام 1924 وفي حي الأكراد (ركن الدين) في العاصمة السورية دمشق ولد لعائلة كردية قادمة من باكور كردستان، وتحديداً من ضفاف بحيرة وان العريقة طفل أطلقوا عليه اسم عصمت، عاش في كنف عائلته أحاطته بالاهتمام والرعاية، فتلقى علومه الأولى في مدارس الحي الذي كانت مدارسه تعطي الدروس باللغة العربية واللغة الفرنسية، حيث كانت وقتها سوريا تحت الانتداب الفرنسي، بعد حصوله على الثانوية العامة انتقل إلى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث سجل في الجامعة الأمريكية قسم الهندسة، لكنه سرعان ما غير الفرع إلى العلوم السياسية والقانون، في بيروت تعرّف على الأمير “كاميران بدرخان”، حيث أصبح صديقاً له، وبتاريخ 29/11/1948 سافر من بيروت إلى سويسرا، حيث أكما دراسة الحقوق في جامعة لوزان، وخصل منها على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية عن أطروحته التي خصصها للقضية الكردية وحق تقرير المصير وفق القانون الدولي، ثم توجه إلى جنيف التي نال شهادة الماجستير في التاريخ من جامعتها، وأصبح بعدها أستاذ للتاريخ في جامعة السوربون العريقة في العاصمة الفرنسية، وتزوج من امرأة سويسرية وله ابن وحيد أسماه سيامند.
نشاطه السياسي والدبلوماسي
وخلال فترة إقامته الطويلة في أوروبا، قرر أنه يجب أن يكون هناك اتحاد للطلبة الكرد في أوروبا، وقام بتأسيس جمعية الطلبة الكرد في أوروبا برفقة 18 شخصاً من رفاقه عام 1956 وترأسها لغاية عام 1962، وكانت هذه الجمعية تضم الطلبة الكرد من مختلف أجزاء كردستان وفي مختلف البلدان الأوروبية، شارك في مؤتمر الطلبة العالمي الذي انعقد في بغداد سنة 1960، وهناك قام بإقامة علاقات وثيقة مع قيادة الثورة الكردية ومصطفى البارزاني شخصياً. حصل على شهادة الدكتوراه في القانون عن اطروحته حول ثورة باشور كردستان سنة 1970 وفي العام 1985 أسس اتحاد الحقوقيين الكرد في أوروبا وترأسها، كان من مؤسسي معهد الأبحاث الكردية في باريس عام 1983 وبعدها أصبح رئيس معهد الأبحاث الكردية في العاصمة الألمانية برلين. ساهم بجهود كبيرة في تأسيس برلمان كردستان في المنفى وانضم بعدها إلى المؤتمر الوطني الكردستاني KNK وتولى رئاسة المؤتمر بين 1999 ـ 2003.
وحدة الصف الكردي هاجسه
وكانت أهم وأبرز القضايا التي شغلت البروفيسور عصمت شريف وانلي، قضية وطنه كردستان وشعبه الكردي، حيث كان يرى الانقسامات السياسية والعشائرية بين الكرد السبب الرئيس والعامل الأبرز في عدم قدرة الكرد على تحقيق أهدافهم في تحرير وطنهم والعيش بكرامة وحرية فوق تراب آبائهم وأجدادهم، لذا دعا دوماً إلى ضرورة تحقيق وحدة الصف الكردي وضرورة بناء تنظيمات ديمقراطية تُركّز على القضايا الجوهرية مثل الحقوق القومية، اللغة الكردية، الهوية السياسية والانتماء، وغيرها من الأمور الأساسية في نضال الشعوب، وأظهر البروفيسور وانلي، أن القوى الإقليمية المحتلة لكردستان لن تسمح على الاطلاق بتأسيس كردستان مستقلة، لذا لا بد من الحركة السياسية الكردية في مختلف الأجزاء توحيد جهودها والتوجه إلى القوى الدولية باعتبار القضية الكردية ليست مجرد قضية داخلية لهذه الدول ولا تنحصر في مطالب سياسية أو ثقافية، بل لها بعد استراتيجي دولي وفق السياسية والقانون الدولي.
تعرضه لمحاولات اغتيال
وتعرض وانلي للكثير من الصعوبات في حياته التي قضاها في خدمة وطنه وقضية شعبه، فبعد انتكاسة ثورة أيلول في باشور كردستان بقيادة البارزاني على إثر اتفاقية السادس من آذار 1975 في الجزائر، طلبت حكومة البعث العراقية منه الحضور إلى بغداد لمناقشة بعض القضايا التي تتعلق بالطلبة الكرد في أوروبا وبتاريخ السابع من تشرين الأول 1976 ولدى عودته، تعرض لكمين من جانب المخابرات العراقية كادت أن تودي بحياته، كما أنه تعرض لعملية اعتداء وحشية من قبل زبانية نظام صدام حسين في منزله حينما كان ممثلاً لقائد الثورة البارزاني، حيث أصيبَ بطلق ناري في رأسه، لكنه نجا من هذه المحاولة أيضاً بأعجوبة، إلا أنه ظل يعاني من لعثمة في لسانه وآلام دائمة في رأسه.
الوفاة والإرث الكبير
وبعد حياة حافلة بالنضال والكفاح من أجل وطنه وشعبه، توقف قلبه الكبير عن الخفقان وأفاضت روحه إلى باريها يوم التاسع من تشرين الثاني سنة 2011 في مدينة لوزان السويسرية التي كانت مكانه المفضل وعاش فيها معظم حياته. صحيح أن البروفيسور “عصمت شريف وانلي” قد غادرنا جسداً وروحاً، لكنه ما يزال بيننا ثورة عارمة تدفعنا بقوة إلى وحدة الصف الكردي الذي كان هاجسه الأول والأخير، وليته كان حياً وشاهد على الأقل وحدة الموقف الكردي في روج آفا كردستان، الذي انعقد كونفرانسه يوم 26 نيسان 2025 بعد رحيله بأربعة عشرة سنة.
الإرث الكبير الذي تركه لنا يكمن في أعماله التي تُعتبر من المراجع الأساسية في الدراسات الكردية المعاصرة من حيث القانون والسياسة، الثقافة والهوية والانتماء، من أهم مؤلفاته “كتاب القضية القومية لكرد تركيا، وكتاب الكرد وكردستان”، بالإضافة إلى العديد من المقالات والدراسات من بينها كراس عن المسألة الكردية في سوريا – مشروع الحزام العربي، وكذلك رسائل مفتوحة إلى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ونجله الرئيس بشار الأسد تناول فيها أوضاع كرد سوريا وعدالة قضيتهم ومطالبهم المشروعة، إضافةً إلى دراسة أكاديمية باللغة الإنكليزية تدور حول نماذج وصيغ حل المسألة القومية في العالم.
ونختتم بالقول: “إن مسيرة المناضل البروفيسور الكردي الكبير عصمت شريف وانلي تُعدّ نموذجاً فريداً من نوعه في التاريخ المعاصر للحركة التحررية الكردية، وحتى في عموم الشرق الأوسط، إذ أنه نشأ في قلب الشرق الأوسط وانطلق من دمشق التي تنبض بالحياة والعلم والأدب ولها تاريخ عريق فيها، ودرس في أرقى وأعرق الجامعات الأوروبية، ومارس مهنته بكل شفافية وبروح المسؤولية التي حملها على كتفيه لخدمة قضية وطنه المحتل والمجزّأ وشعبه المستعبد مُركزاً على البعد السياسي والقانوني، سعى جاهداً إلى تعزيز الوحدة الوطنية الكردية وناقش مراراً وتكراراً أسباب ضعف الحركة السياسية الكردية، داعياً إلى تعزيز التعاون وتحقيق وحدة وطنية شاملة”، ويبقى السؤال المطروح: “تُرى هل التفتت الحركة السياسية الكردية المعاصرة إلى ما ناضل من أجلها البروفيسور وانلي طيلة سنوات عمره النضالي؟ وهل التزم قادة هذه الحركة في مختلف الأجزاء بما طرح من أفكار وحاولوا تطبيقها على أرض الواقع عملياً؟”.
صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=79482






