على ضوء القمر نسجنا أحلام الوطن

مصطفى عبد الوهاب العيسى

تسلمتُ نسخة من مذكرات الكاتبة والسياسية نرمين عثمان مترجمة للعربية من الكاتب والسياسي علي شمدين ، ولأنني قرأتُ للأستاذ شمدين سابقاً بين تأليف وترجمة العديد من الكتب فقد كنت مدركاً لأهمية هذه المذكرات فهو عادة يختار بعناية المواضيع التي يكتبها أو يترجمها ، وأنا بطبيعة الحال أحب قراءة السير الذاتية والمذكرات كثيرا ، لكن ورغم ذلك لم أكن متحمساً لقراءة هذه المذكرات لأنني كنت قد عكفت على قراءة بعض السير الأدبية في الفترة الأخيرة ، وربما أيضا بسبب الوهلة الأولى التي يعطيها الكتاب الضخم لنا .

كتاب ضخم ليس بعدد الصفحات فقط والتي تجاوزت ال500 صفحة ، ولكن لأنه مذكرات سياسية من الصف الأول ، وآخر عهدي بقراءة مذكرات السياسيين كان (أرض الميعاد) لباراك أوباما و (خيارات صعبة) لهيلاري كلينتون ، وكلاهما تطلبا تركيزاً بالغاً عند القراءة وهو ما كنت أعلم أنني أفتقده عند حصولي على الكتاب .

الصورة النمطية لمذكرات سياسية من الصف الأول اختفت تماماً عندما باشرت بقراءة هذه المذكرات ، وما إن بدأت بقراءتها حتى شدتني الكاتبة بأسلوبها البسيط وبعدها عن التكلف إلى القراءة باستمرار حتى الصفحة الأخيرة .

سأبتعد عن الغوص بفصول الكتاب وتفاصيله في هذا المقال حتى لا يكون مراجعة للكتاب ربما قام بها أحدهم سابقا أو سيقوم بها لاحقاً بكل تأكيد ، وإنما سأقف بشكل رئيسي على بعض المحطات أو الومضات التي علقت بذهني .

من صفحات الكتاب الأولى تلمس البساطة والعفوية في الحديث ، والأهم هو نكران الذات الجميل والواضح جداً الذي تمتعت به شخصية الوزيرة التي تُشعرك لوهلة ، وفي الفصول الأولى خاصة بأنها لا تكتب عن نفسها بقدر ما هي تكتب عن الآخرين ، وتحاول حفظ إرثهم في هذه المذكرات .

لو أخفينا بعض التفاصيل من أسماء وأماكن في بعض الفصول وقرأناها بتجرد لقلنا بأنها مذكرات امرأة سورية ، وهذا ما نلحظه بشكل كبير بين طفولة الوزيرة وطفولتنا في سورية إذ وصل التشابه والتطابق حتى في ألعاب الأطفال وأسمائها (فات الثعلب فات فات ، لعبة السبع حجرات .. الخ) ، وكذلك الخمسينيات والستينيات للمرأة االسورية المتعلمة والمتحررة ، والتأثير الهام الذي تلعبه المرحلة الجامعية في بلورة شخصياتنا مستقبلا ، ومعظم التفاصيل من الأغاني والمكتبات والرحلات التي سردتها الوزيرة من حياتها الجامعية جعلتنا نستعيد ذكريات الجامعات في سوريا .

من جميل ما سلطت عليه الضوء هذه المذكرات هو قصة الحب الجميلة التي جمعت الوزيرة بزوجها (دارو) الذي قضت معه شهر العسل بزيارات أسبوعية له في سجن (أبوغريب) ، ورافقته بوفاء عظيم لسنوات طويلة وفي بلدان عديدة وهما يتشاركان المسؤولية قبل أن تودعه وهو على فراش الموت يلفظ آخر أسراره لها .

تعذرت الوزيرة بذاكرتها الضعيفة أحيانا ، ولا أتفق معها بهذه النقطة ، وأرى بأن ذاكرتها كانت جبارة إذ استطاعت أن تروي لنا تفاصيل دقيقة جداً عاشتها من الطفولة والجامعة إلى سوريا وآوروبا مروراً بصفوف البيشمركة ، كما أنها تميزت بالصراحة المنقطعة النظير والتي مع الأسف لا ينتهجها معظم السياسيين عند كتابة مذكراتهم ، ومما تمتعت به أيضاً هذه السياسية الكردية العراقية التي وازنت بين انتمائها للعراق وفخرها والتزامها بقوميتها هو حس الدعابة اللطيف الذي أثار غيرة زوجها وغضبه يوماً ما عندما سمع مزحتها بشأن العيون الخضراء لابنتها نارين .

كانت نرمين سياسية قوية وصلبة تمتعت بالإصرار والعزيمة والركض والسعي وراء أحلامها المشروعة ، ورغم أنها عنيدة في الدفاع عن مبادئها إلا أنها كانت منفتحة على قبول ومزج ما تتلقفه من ثقافات وأفكار جديدة مع ما تأصل وترسب في شخصيتها من ثقافات قديمة ، فمن المستحيل أن ننسب شخصية الوزيرة هذه للماركسية البحتة وهي لديها ما لديها من تجليات صوفية جميلة برأيي .

تقول نرمين عثمان : كم من الأمور الجميلة والظواهر الغريبة والمثيرة ، التي لم نستطع توثيقها حينذاك وتصويرها بالكاميرا ، وإنما احتفظنا بها في ذاكرتنا وخيالنا فقط ، أعتقد بأن ملاحظة المرأة للظواهر الطبيعية تختلف جداًعن ملاحظة الرجل ، فإن الأشياء التي كانت جميلة بالنسبة لنا ، كانت تبدو عادية بالنسبة للرجال وبسيطة ، فقد كان التعبير عن المشاعر بالنسبة لهم صعباً ومخجلاً ، لذلك لا بد من مزج التصورين معاً كي تنتج عنهما صورة صحيحة وواقعية ، ولا بد أن ينعكس هذا في كل المجالات ، وإن خلط تصور المرأة ورؤيتها مع تصور الرجل ورؤيته ودمج قراءة المرأة مع قراءة الرجل يجعل الرؤية أكثر دقة وصواباً .

تسلمت نرمين عثمان زمام الأمور والعديد من المناصب ، والتي كان أهمها طبعاً الحقائب الوزارية في حكومة الإقليم أو حكومة بغداد ، وأدت واجبها على أتم وجه ، ولكنها قبل أن تكون سياسية من الصف الأول كانت وبقيت إنسانة بفطرتها السليمة وعاطفتها الأنثوية الكبيرة التي حرضتها دوماً على فعل الخير ومساعدة الناس وخاصة الأيتام وكبار السن والأطفال لترسخ لي قناعة وتؤكد ضرورة أن يكون السياسي إنساناً قبل ولوجه عالم السياسة .

لا أختم بتعجب وأقول : أية سياسية كانت نرمين ، بل أية إنسانة هي نرمين ؟! ، ولا أشك أبداً بأنه كان لدمشق وحي البرامكة أثراً في شخصية الوزيرة الرقيقة .

Scroll to Top