عمر قصير وإرث كبير يلماز غوني 1937 / 1984

دجوار أحمد آغا
لكل شعب وأمة؛ أُناس مبدعون يرفعون اسمها عالياً بين الشعوب والأمم ويُشاركون في بناء حضارتها لتُسهم بدورها في بناء الحضارة الإنسانية. تتعدد مواهبهم العبقرية وإبداعاتهم في مختلف المجالات من السياسة والإدارة، إلى الاقتصاد والفلسفة، مروراً بالأدب والثقافة والعلم. لكن يبقى المكان الأبرز في مجال الإبداع هو الفن بمختلف نواحيه سواء كان الغناء، الرقص، والمسرح، والسينما، والتمثيل، أو الإخراج.
الكرد من أكثر شعوب الشرق الأوسط وربما العالم، الذين تعرّضوا للظلم والاضطهاد خاصة في العصر الحديث. أكثر ما يحزّ في نفس الكردي أن من يقوم باضطهاده وتعذيبه وقتله، هو ذاته الذي ساهم الكردي في بناء دولته القومية ودافع بدمه وروحه عنها واعتبره أخاً له، لكنه يرد الجميل بهذه الطريقة البشعة. يبقى دوماً هناك شعاع من الأمل تتمسك به الشعوب التواقة إلى الحرية من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافها المشروعة في العيش بحرية وكرامة بعيداً عن سلطة الدولة القومية وأدواتها القمعية. وهذا الشعاع يصنعه المبدعون. سوف نتحدث في هذه المقالة عن أحد هؤلاء المبدعين الكرد في مجال الفن وهو الكاتب والمخرج السينمائي الكبير يلماز غوني.
الولادة والنشأة
بعد أن أقام أتاتورك الجمهورية التركية بسواعد الكرد، أظهر وجهه الحقيقي من خلال ترحيل الكرد قسراً من مناطقهم إلى مناطق أخرى في الداخل التركي. وكان نصيب والد يلماز السيد حميد بولتون وزوجته كولي أن يُهجّرا من موطنهما الأصلي في موش إلى قرية “ينيجة” في ضواحي أضنة حيث ولد هناك يلماز في الأول من نيسان عام 1937 ضمن عائلة من سبعة أخوة وأخوات، الأب كان فلاّحاً يعمل عاملاً موسمياً في الأراضي الزراعية. ضمن هذه البيئة التي تميّز قاطنوها بالعنف بسبب قساوة الحياة وعدم وجود قانون يضبط الأمور، عاش يلماز طفولته البريئة التي عايش من خلالها الظلم الذي يعاني أبناء الطبقة الكادحة حيث يتحدث عن هذا الأمر بنفسه: “أنا ابن فلاح؛ وكان لي صديق اسمه سلو أيضا كان ابن فلاح، وكان أولاد الإقطاعيين يجبروننا على لعبة العربة والحصان ودوماً كنت أنا وسلو حصانيين مربوطين بالحبال نجر عربة أولاد الأغنياء، وذات مرة مرض سلو وأخذوه للعلاج إلا أنه رجع على عربة يجرّها ثوران وهو جثة هامدة، ومن يومها رفضت أن أكون حصاناً لعربة أولاد الأغنياء”.

 

البدايات الأدبية
توجه يلماز في عمر التاسعة عشرة إلى إسطنبول حيث سجل في كلية الاقتصاد، وهناك تعرّف إلى العديد من الأدباء الكرد الكبار أمثال يشار كمال، موسى عنتر، ومحمود مقال، وجتين التان، وغيرهم حيث وجد أنه يستطيع من خلال الكتابة أن يدافع عن شعبه، وعن الطبقات الكادحة المسحوقة. كتب الكثير من القصص والروايات ربما أشهرها رواية “صالبا” التي كتبها وهو في سجن سلمية عام 1973. كما كتب رواية أخرى بعنوان “قصص إلى ابني” وأخرى تحت عنوان “نحن نريد مدفأة وزجاجة للنافذ ورغيفين” بالإضافة إلى رواية “ماتوا وأعتاقهم ملوية”. إلى جانب ذلك كتب دراسة أطلق عليها اسم “الشرائع السياسية” التي حُكم عليه بسببها سبع سنوات ونصف.
التحول إلى السينما
جاء التحوّل إلى مجال السينما خلال وجوده في إسطنبول حيث تعرف هناك إلى شخصيات سينمائية مؤثرة، كان أبرزهم المخرج الكبير عاطف يلماز حيث أُعجب بحماسه وحبّه الكبير للسينما، وقام بإعطائه الفرصة من خلال إسناد دور له في أحد أفلامه. بعدها اشتهر غوني بالأدوار الشريرة حيث كان يتقمص الشخصية إلى درجة الاتقان. أحبته الجماهير بشكل كبير وأصبح لقبه “معبود الجماهير”. تحول إلى مجال الإخراج السينمائي عام 1968 وكان فيلم “سيدخان” من أول الأفلام التي أخرجها حيث وجد فيها وسيلة قوية للتعبير من خلالها عن آرائه حيال ما يجري. لكن السلطات القمعية لم تتركه بحاله خاصة، وهو الكردي الذي أفصح عن كرديته بشكل واضح، الأمر الذي دفع بالسلطات إلى اعتقاله والزج به في السجن. شارك في التمثيل وإخراج الكثير من الأفلام منها الهاربون، العلقم، وملك الملوك، وزمن التبغ، والأمل، ورجل قبيح، والذئاب الجائعة، أنا لا أتأثر بالرصاص، غداً هو اليوم الأخير، الفقراء وغيرها.
الفيلم الأبرز “يول” الطريق
أبرز وأشهر أفلامه، كان “يُول الطريق”. خلال هذا الفيلم الذي حاز فيه غوناي على جائزة “السعفة الذهبية” في مهرجان كان عام 1982 مناصفة مع المخرج اليوناني كوستا غافراس عن فيلمه “المفقود”. عبر خمس شخصيات رئيسية في الفيلم، يُخبرنا غوناي كيف أن تركيا هي عبارة عن سجن كبير خاصة بعد انقلاب 12 أيلول 1980. تدور قصة الفيلم حول خمسة أشخاص من باكور كردستان مسجونين في إمرالي يتم منحهم إجازة لمدة أسبوع فقط لزيارة أهلهم والعودة إلى السجن. خلال هذا الأسبوع يكشف لنا غوناي كيفية الحياة في باكور كردستان سواء من خلال قساوة الطبيعة وتساقط الثلوج، وقطع الطرقات، أو من خلال المداهمات التي يقوم بتنفيذها الجندرمة المدججون بالسلاح للقرى والبلدات الكردية، ويُرهبون الأهالي ويعتقلون الشبان.
الرحيل المبكر
أكثر ما يؤلم هو رحيل مبدعينا وعظمائنا في الغربة بعيداً عن تراب الوطن، الذي ناضلوا من أجله. بعد صراع غير متكافئ مع مرض السرطان الذي أصب مبدعنا في السجن، وفي التاسع من أيلول عام 1984 أغلق يلماز غوني عينيه في أخد مشافي باريس إلى الأبد عن عمر لم يتجاوز 47 عاماً. أُقيمت للراحل الكبير مراسم تليق به حضرها الكرد من مختلف إنهاء القارة الأوروبية إلى جانب شخصيات فرنسية مرموقة منها سيدة فرنسا الأولى وقتها وصديقة الشعب الكردي السيدة “دانييل ميتران” بالإضافة إلى وزير الثقافة وقتها “جاك لانغ” بالإضافة إلى الكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الكردية. وتم دفن جثمانه في مقبرة العظماء “بير لاشيز”.
الإرث الخالد
ترك لنا وللإنسانية الكثير من الأعمال الخالدة التي أصبحت ملكاً للبشرية، كما أن يلماز كتب العديد من القصص والروايات التي ومن خلالها شرح المعاناة التي يلاقيها أبناء شعبه في سبيل الحياة الحرة الكريمة. كما قام بالتمثيل وإخراج العديد من الأفلام السينمائية كما ذكرنا سابقاً من أهمها: القطيع، والأمل، والعدو، والطريق “يول” الذي كتب قصته وهو في سجن جزيرة إمرالي وأعطى التعليمات لمساعده شريف غورين لإخراجه وبعد الهروب من السجن عام 1981 وضع اللمسات الأخيرة عليه. الكرد أينما كانوا حول العالم يعتبرون يلماز غوناي الأب الروحي للسينما الكردية ويحترمون إرثه الخالد الذي ساهم إلى حد كبير في توجه الكثير من الشبان والشابات الكرد إلى مسألة الإخراج السينمائي ونقل معاناة شعبهم من خلال هذا الفن الراقي والنبيل. منهم على سبيل الذكر لا الحصر (خليل داغ، وسميرة مخملباف، ومانو خليل، وبهمن قوبادي).

صحيفة روناهي

Scroll to Top