فلسفة النوروز التاريخية وفق رؤية المؤرخ علي تتر نيروي

خالد علي سليفاني

في كتابه الرائد “كوردستان القديمة” والذي تشرفت بترجمته إلى اللغة العربية، يقدم المؤرخ الدكتور علي تتر نيروي رؤية فلسفية وتاريخية معمقة للنوروز، ذلك العيد الذي يمتد جذوره إلى أعماق التاريخ الآري، ويُعدّ من أبرز رموز التجدد والبعث في الذاكرة الجماعية للشعوب الآرية، ولا سيما الكورد. يتجاوز نيروي الطابع الاحتفالي السطحي للنوروز، ليغوص في أبعاد رمزية وفلسفية تعبّر عن صراع وجودي بين النور والظلام، الخير والشر، الحرية والاستبداد. بذلك، يصبح النوروز شعلة لا تنطفئ عبر الزمن. يشكل كتاب “كوردستان القديمة” مرجعًا فريدًا يستعيد فيه المؤرخ ذاكرة النوروز ويعيد بناء فلسفته ضمن إطار تاريخي واجتماعي وسياسي عميق.

النوروز: تجسيد صراع الوجود والبعث الدائم
ينطلق البروفيسور الدكتور علي تتر نيروي من مفهوم أساسي في الفكر الآري القديم، وهو الصراع الأزلي بين قوى النور وقوى الظلام، كرمزية كونية تعبر عن تناوب الحياة والموت، الشتاء والصيف، الظلم والعدل. يرى أن النوروز ليس مجرد احتفال ببداية السنة الجديدة أو حلول فصل الربيع، بل هو حالة فلسفية تعكس الانتصار الوجودي للنور، رمز الحياة المتجددة والانبعاث الذي يتكرر بلا نهاية.

في هذا الإطار، تتبلور فلسفة النوروز كاحتفال بالتحرر من قيد الظلمة، وهو ما تجسده أسطورة كاوه الحداد، بطل الثورة ضد الطغيان والظلم، الذي كان شرارة التغيير التي أضاءت ظلام الاستبداد.

وفقًا لنيروي، فإنّ كاوه الحداد ليس شخصية أسطورية فحسب، بل رمز فلسفي للثورة على القهر، ولانعتاق الروح من قيود الجهل والظلم. لذلك، يُنظر إلى النوروز كإحياء لهذه الروح الثائرة، وفعل وجودي يعبر عن إرادة الإنسان في المقاومة والتجديد.

الجذور التاريخية للنوروز: طقس طبيعي متجذر في الذاكرة الجماعية
يرى نيروي أن النوروز يحمل إرثًا زراعيًا عميقًا مرتبطًا بدورة الطبيعة ومواعيد تحول المواسم، تحديدًا انبعاث الأرض بعد سبات الشتاء الطويل. هذه الدورات الطبيعية ارتبطت بعقائد الشعوب الآرية، وأصبحت طقوس النار والاحتفال بالضوء ممارسات رمزية تعكس أمل الإنسان في انتصار الخير على الشر، وتجدد الحياة المستمر.

كما يوضح كيف أن طقوس النار والنور في النوروز ليست طقوسًا عابرة، بل تجسيد لمفهوم كوني حول التجدد والحياة الأبدية، حيث تحترق الظلمة مع حرارة النار لتفسح المجال للنور والدفء، وتتحقق بذلك دورة الكون التي تحكم حياة الإنسان والمجتمعات.
النوروز في الأدب والذاكرة الشعبية: حالة وجودية متجددة

يلفت نيروي الانتباه إلى الحضور العميق للنوروز في الأدب الشعبي والملحمي، حيث يصبح العيد رمزًا للنضال ضد قوى الظلام والاضطهاد. يتجلى ذلك في الملحمة الفارسية الشهيرة “الشاهنامة” لفيروزي، التي تصف كاوه الحداد كبطل خالد يصنع تاريخ التحرر. هذه الحكايات ليست مجرد قصص تراثية، بل تراكمات لوعي جماعي يعبر عن صراع الوجود، والإيمان بالعدل والحرية كقيم حيوية.

النوروز، وفق نيروي، هو لحظة زمنية تلتقي فيها الذكرى والتجربة، وحالة وجودية تُظهر قدرة الإنسان على الصمود والتمرد والبحث المستمر عن العدالة، مما يجعله أكثر من مجرد طقس موسمي، بل حالة من الاستمرارية الفلسفية.

الهوية والانتماء: النوروز رمز المقاومة الثقافية للكورد
يركز المؤرخ نيروي على أن النوروز يتجاوز كونه عيدًا تقليديًا، ليصبح عنصرًا محوريًا في تشكيل الهوية الثقافية للكورد، الذين واجهوا عبر التاريخ محاولات متكررة لمحو وجودهم الثقافي والسياسي.
النوروز هو إعلان وجود وشهادة على الصمود، وأداة مقاومة ثقافية ضد الطمس والتهميش.

بهذا المعنى، يمثل النوروز لدى الكورد ليس احتفالًا بالربيع فقط، بل موقفًا سياسيًا وثقافيًا يؤكد التمسك بالكرامة والحرية، ويجسد تلاحم الجماعة وتمسكها بخصوصيتها في مواجهة تحديات الانصهار أو الإلغاء.

إن فلسفة النوروز كما يقدمها المؤرخ علي تتر نيروي في كتابه الرائد “كوردستان القديمة” ليست مجرد تاريخ لعيد قديم، بل قراءة عميقة في الروح الإنسانية التي تسعى إلى البعث والتجدد وسط ظلمات الوجود. النوروز هو شعلة لا تنطفئ، رمز للحرية والإرادة المستمرة في مواجهة القهر، ورسالة أبدية حية في ذاكرة الشعوب التي اختارت الحياة وتمسكت بالكرامة عبر التاريخ.

إنّ إعادة قراءة النوروز وفق هذه الفلسفة التاريخية تفتح آفاقًا جديدة لفهم أعمق للهوية والوجود، وتعزز مكانة هذا العيد كرمز حضاري عالمي يستحق الاهتمام والدراسة المستمرة. ويتميز المؤرخ علي تتر نيروي في طرحه بخصوصيته الواضحة، حيث لا يقتصر على عرض النوروز كحدث واحد، بل يسلط الضوء على تنوع أنواع النوروز المختلفة، ويحلل تعدد الروايات والأساطير المحيطة به، بالإضافة إلى الشخصيات المرتبطة به، مما يضفي على دراسته غنىً تاريخيًا وثقافيًا وفلسفيًا فريدًا، يعكس تعقيد وتعددية هذا العيد في الذاكرة الجماعية للشعوب الآرية، وبالأخص الكورد.

Scroll to Top