د. ولات محمد
“… فقال لصاحبه وهو يحاروه أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نَفَرا” الكهف/ 34.
تركزَ المقال في قسمه الأول (1ـ تخريب العقول) على التشويه الذي تعرض له مفهوم “الأكثرية” وتوظيفه من قبل بعضهم للاستئثار بالسلطة عرقياً أو دينياً أو مذهبياً وإقصاء كل من لا ينتمي إلى تلك “الأكثرية” كما حدث ويحدث في كل من سوريا والعراق على سبيل المثال لا الحصر. في المقابل ثمة مثالان في هذا الإطار يمكن الإشارة إليهما بوصفها حالتين إيجابيتين لم تقم الأكثرية العرقية فيهما بإلغاء حق المكونات المجتمعية الأقل عدداً في الإدارة والسلطة.
على مدى قرن من الزمن ناضل الكورد من أجل الحصول على حقوقهم المسلوبة في الدول التي رسمت حدودها “سايكس بيكو” وقسّمت بينها الجغرافية الكوردية الكبرى. وفي مسعاهم ذاك كانوا دائماً يواجَهون من قبل الأنظمة المستبدة الشوفينية وكذلك الشعوب التي دفعت وما زالت تدفع أثماناً باهظة ضريبة مناصرتها لتلك الأنظمة ووقوفها معها في وجه المظلومين وأصحاب الحق. وعلى الرغم من ذلك عندما آلت أمور السلطة إلى الكورد في كل من إقليم كوردستان وشمال شرق سوريا لم يعمدوا إلى إقصاء الآخرين والاستئثار بالحكم بحجة أكثريتهم العرقية في تينك الجغرافيتين، بل قاموا بإشراك كل المكونات المجتمعة في مؤسسات الإدارة في الإقليمين.
بعد إسقاط النظام العراقي عام 2003 كان الكورد العامل الرئيس (أو الوحيد) الذي كان له دور في إقامة نظام لا مركزي فيدرالي لضمان جزء من حقوقهم (وحقوق الأقليات الأخرى) من جهة، ولضمان عدم عودة النظام المركزي الديكتاتوري المقيت الذي عانى منه كل العراقيين من جهة ثانية. وبعد الاعتراف بإقليم كوردستان بمحافظاته الثلاث (الأربع الآن) في الدستور العراقي تحول الكورد إلى أكثرية “عرقية” في الإقليم الفيدرالي الجديد بعد أن كانوا أقلية سكانية نسبية في عموم العراق.
وعلى الرغم من أن الكورد عانوا على مدى قرن من الزمن من الإقصاء والتهميش بوصفهم أقلية، فإنهم رفضوا توظيف “أكثريتهم العرقية” في الإقليم الفيدرالي في قمع وتهميش وإقصاء المكونات الأخرى الأقل عدداً التي تعيش معهم جنباً إلى جنب على تلك الرقعة الجغرافية الكوردستانية، بل أقاموا نظاماً ديمقراطياً يحتكم للانتخابات الحرة أولاً، وقاموا بتخصيص “كوتا” داخل البرلمان للأقليات التي لا تستطيع أن تحصل على مقاعد عبر الانتخابات العامة ثانياً. كما أنهم منحوا صلاحيات واسعة للإدارات المحلية تحت مسمى “الإدارة المستقلة” يمارس فيها الجميع حقوقهم الثقافية واللغوية والدينية وغير ذلك، ولم يقولوا لأحد هذه بلادنا وأرضنا وأنتم ضيوف وغرباء وليس لكم سوى حق الضيافة.
من جهتها لم تقم الإدارة الذاتية القائمة في مناطق شمال شرق سوريا منذ 2012 بإقصاء أحد بدعوى الغالبية السكانية الكوردية هناك، بل أشركت معها كل المكونات المجتمعية في المنطقة وسمحت لجميع اللغات والثقافات أن تعبر عن نفسها، على الرغم من أن الإدارة غير رسمية حتى هذه اللحظة وعلى الرغم من أنه كان باستطاعة الكورد أن يستحوذوا فيها على كل شيء، بدعوى أنهم هم من قاموا بتأسيسها، وأنهم يشكلون الأغلبية السكانية هناك. الكورد لم يفعلوا ذلك، ورفضوا أن يستقووا بأغلبيتهم السكانية في تلك الجغرافيا ويتحولوا من موقع المظلوم إلى موقع الظالم ومن المقموع إلى القامع لمجرد أنهم أكثرية عرقية هناك ولاستحواذهم على السلطة.
في ضرورة موافقة الأكثرية على المطالب الأقلية
من صور التشويه الذي يمارَس في هذا الإطار (وهو من الغريب المضحك) أنهم يتحدثون ليل نهار عن حق الأكثرية العرقية أو الدينية أو المذهبية في الحكم (دون انتخابات) كحق مقدس لهم غير قابل للنقاش، ولكن عندما يطالب الكورد بإدارة المناطق التي يشكلون فيها الأغلبية السكانية ضمن نظام لا مركزي فإنهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ويقول بعضهم بالحرف: “حتى لو كان معظم سكان محافظة الحسكة يطالبون بالنظام الفيدرالي فإن هذا ليس من حقهم لأنهم يحتاجون إلى موافقة غالبية السوريين”!!
هذه أولاً ازدواجية فاضحة: فإما أن تُعتمد الأغلبية العرقية في السلطة والإدارة والحكم وإما ألا تعتمد. ثانياً، عندما يطالب شعب بتقرير مصيره في منطقة جغرافية ما يشكل فيها الأغلبية فإن المقياس هو فقط غالبية آراء الناس في تلك المنطقة لا في جغرافية الدولة كلها. وللتوضيح سأضرب أمثلة على ذلك:
استفتاء لواء اسكندرون
حتى عام 1938 كان لواء إسكندرون تابع (شكلياً) للجمهورية السورية. ولفض التنازع بين سوريا وتركيا على تبعية اللواء قامت فرنسا بتنظيم استفتاء لرغبات السكان هناك، وكانت النتيجة ضم اللواء إلى تركيا (يقال إن النتائج كانت مزورة). المهم أنه بغية تقرير السكان لمصيرهم تم استفتاء آراء ورغبات الناس في ذلك الإقليم فقط لا ما يرغب به كل السكان في سوريا أو في تركيا بخصوص مصير الناس في اللواء.
استفتاء إقليم كوردستان وإقليم كاتالونيا
عندما أراد إقليم كوردستان عام 2017 تقرير مصيره أجرى استفتاء لآراء سكان الإقليم فقط (الذين اختاروا الاستقلال بنسبة 93%) وليس استفتاء لرغبات سكان كل العراق. وهذا ما جرى أيضاً في ذات الوقت في إقليم كاتالونيا الإسباني؛ فقد جرى أخذ آراء ورغبات سكان الإقليم الكاتالوني فقط، لا رغبات كل سكان إسبانيا.
هذا هو الأمر الطبيعي والمنطقي، لأن أولاً حق تقرير المصير هو حق للشعوب المظلومة وليس حقاًُ للشعوب أو الأنظمة الحاكمة، فلا يمكن لنظام أو أكثرية شعب معين أن يقرر مصير شعب آخر. ثانياً لأن نتيجة استفتاء آراء الشعب الحاكم معروفة وواضحة حتى قبل أن يجرى الاستفتاء. لذلك مجرد الذهاب إلى هذا الإجراء أو المطالبة به هو غباء بحد ذاته.
بهذه الطرق والوسائل غير النبيلة يتم تشويه المفاهيم والحقائق بغية تشويه وعي الناس واستغلال عواطفهم لإثارة النعرات والخلافات وممارسة الظلم وهضم الحقوق، وذلك بدلاً من طرح خطاب وطني جامع يقرب بين الناس ويؤسس لدولة يستطيع الجميع أن يرى نفسه فيها ويشعر بانتمائه إليها بوصفه مواطناً أصيلاً له كل الحقوق وعليه كل الواجبات، لا ضيفاً طارئاً عليه فقط الحفاظ على آداب الضيف بانتظار ما يقدمه المضيف.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=69735