بوتان زيباري
منذ أن امتشقت القوى الكولونيالية أقلامها الحادة وخطّت بها الخرائط على لحم الجغرافيا، وُلدت سرديات هجينة أرادت أن تُسكت ذاكرة الشعوب وتكتب بدلاً منها أساطير مطهّرة من الحقيقة. في قلب هذه السردية الاستعلائية، وُضع الكورد – كأمة حيّة تعانق الجبال والوديان منذ آلاف السنين – في خانة “الطارئ”، كأنهم لم يكونوا يومًا أبناء هذا التراب، وكأنّ التاريخ لم يكن شاهدًا على لغتهم ودمائهم وملحهم.
لقد شُيّدت سردية “الآخر الكوردي” على أعمدة ثلاث: الإنكار، الإقصاء، والتشويه. إنكارٌ للوجود التاريخي للكورد على أرض ميزوبوتاميا العليا، إقصاءٌ لحقهم في تسمية ديارهم وتوثيقها، وتشويهٌ لهويتهم بإلصاقهم بأجندات خارجية أو بنفي أصالتهم اللغوية والثقافية. وبين هذه الركائز، تم بناء وعي زائف أراد أن يُلبس الأرض ثوبًا لا يليق بها، وأن يُخرج أبناءها من باب التاريخ الخلفي، كأنهم ضيوف ثقلاء على مائدة لا تعود لهم.
إلا أن الحقيقة أعمق من خرائط سايكس بيكو وأعرق من حدود الاستعمار الفرنسي. فالكورد لم يكونوا “لاعبين جددًا” على مسرح المشرق، بل كانوا من الذين شيّدوا خشبة هذا المسرح قبل أن تُكتب أول سطور المسرحية. في الممالك الخورية والميتانية، وعلى ضفاف دجلة والخابور والفرات، ارتفعت لغتهم وموسيقاهم، وتجلّت رؤيتهم للوجود والكون والطبيعة. لم يكونوا عابرين، بل مؤسسين. لم يكونوا جوقة في الخلفية، بل العازفين الأوائل للنشيد.
إن وجود الكورد في شمال وشمال شرق سوريا ليس فرعًا نابتًا من غصن غريب، بل هو جذرٌ غائر في التربة. من جزيرة ابن عمر إلى ديريك، من عفرين إلى كوباني، يمتد الحضور الكوردي عبر قرون موثقة في سجلات الجغرافيين والمؤرخين. لقد كتب شمس الدين الذهبي عن كورد الجزيرة منذ القرن الرابع عشر، وبدر الدين العيني تحدّث عن كورد حموا قلعة دير الرحبة قلعة الميادين بصدورهم، في وجه التتار لا العنصرية، وسجّلهم كارس نيبور الألماني في خرائطه لسنة 1770 يعرض في الجزيرة الفراتية مجموعة قبائل كوردية. لم يكونوا أشباحًا، بل أممًا نابضة بحضارتها. ولغتهم – وإن تقاطعت مع الفارسية القديمة – فإنها حافظت على كينونتها بوصفها لغة حية لها صرفها ونحوها وشعرها ونثرها، تكتبها الجبال وترددها الأودية.
إن المزاعم التي تختزل الكورد في صورة “اللاجئ” أو “الوافد” ما هي إلا محاولة لنسف التاريخ من جذوره، وإعادة كتابة الحاضر بلغة الاستعلاء العرقي. لكن الحقيقة لا تُمحى بشطبٍ على ورق، ولا تزول بتكرار الوهم. فالهجرات التي وقعت في بدايات القرن العشرين من شمال كوردستان إلى جنوبها لم تكن إلا حركة داخل الوطن الواحد، قبل أن تُسَيّج الأرض بأسلاك الانتداب والحدود الاستعمارية. من عبر آنذاك لم يعبر إلى الغربة، بل إلى شطر آخر من جسد واحد مزّقته القوى الإمبريالية.
ولعل أخطر ما في هذه السرديات الحديثة، هو ذاك الربط المتعسّف بين الكورد ومشاريع قومية أو دينية خارجية، في محاولة لإفراغ نضالهم من شرعيته الذاتية. إنّ كورد سوريا لم يرفعوا راية فارس، ولا تبنّوا أجندة غرباء، بل حملوا رؤيتهم الخاصة للحرية، وانبثقت ثورتهم من وجعهم المحلي، من جراحهم التي نزفت لعقود تحت وطأة التمييز والتهميش. هم لم يكونوا أداة، بل فاعلين في كتابة حاضرهم، كما كانوا دائمًا فاعلين في رسم تاريخهم.
ثمّة محاولة مستميتة لحصر “الحق” في جغرافيا سامية خالصة، وكأنّ الأمم التي سبقت الكتابة والنسب قد اختفت وتبخرت. لكنّ الخوريين والميتانيين والأورارتو لا يزالون يتحدثون في أسماء القرى، وفي طقوس الفصول، وفي نبض اللغة الكوردية التي ورثت نغماتهم وأحلامهم. الكورد ليسوا لاحقين على السامية، بل هم من أوائل الذين نحتوا على الصخر قبل أن تكتب الأبجدية.
وفي كل هذا، يظل السؤال الحقيقي غائبًا: لماذا كل هذا الجهد لإنكار شعب؟ لماذا كل هذا العناء في تشويه الذاكرة وتزوير التاريخ؟ الجواب ربما في الخوف من الاعتراف، من لحظة الحقيقة التي تُسقط الأقنعة وتُعيد تعريف من هو “الطارئ” ومن هو “الأصيل”. الكورد لا يحتاجون إلى شهادة من أحد، فهم أبناء جبل الألف عام، أبناء اللهب الذي لا ينطفئ، أبناء الوجع الذي تحوّل إلى قصيدة مقاومة.
وفي زمن تتنازع فيه الأمم على هوياتها، يتمسك الكوردي بأرضه لا كمن يستولي عليها، بل كمن يتذكّر نفسه فيها. في شجرة زيتون في عفرين، في قبة مسجد في قامشلو، في أغنية حزينة تُغنّى على ضفاف الخابور، تنبض ذاكرة لا تستطيع الجغرافيا المزورة أن تطمسها. وإذا كان للحق صوت، فإنه يتحدث بالكوردية، بلكنة الجبل، وبرائحة الخبز الساخن في بيوت لم تهاجر يومًا من ذاكرتها.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=72619