في حيّنا… عقارب الساعة متوقفة!

كورد أونلاين |
سوزدار وقاص_
في مفترق طرق، وعلى ملتقى شوارع أربعة، كان البناء ذو الطوابق الخمسة مرتفعا شاهقا، وفي جنباته خمس عائلات نزحت قسراً من عفرين؛ هربا من بطش الفاشي التركي، واستقر بها الحال في هذا البناء من حي الشيخ مقصود المحاصر منذ فترة ليست بالقصيرة.
بين الثانية والثالثة ليلا، كان الجميع يخلد في نوم هانئ، كانوا في موعد مع الصباح، لممارسة حياتهم الاعتيادية، والتوجه نحو أمانيهم ومستقبلهم، الرجال إلى عملهم، والأطفال إلى مدارسهم، والنساء إلى أعمالهن المنزلية والاعتناء بأطفالهن، أو ربما زيارات عائلية معتادة.
هي تلك الليلة، التي غيرت قوانين حياتهم اليومية كلها، التي بددت أحلامهم ومستقبلهم، هي الليلة التي حولتهم يتامى، هي الليلة التي ناموا فيها إلى الأبد، ولم يستيقظوا… الليلة التي أوجعتنا جميعاً بفقدانهم… ليلة الـ٢٢ من كانون الثاني 2023م.
لم أكن على علم قبل الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة بتلك التفاصيل، اتصل بي حينها أحد المعارف من حيّنا وقال هل سمعتي ما حلّ بنا؟، هل سمعتي بالكارثة، التي حلًت على الحي وأهله، مبنى مؤلف من خمسة طوابق في حي الشيخ مقصود انهار فوق رؤوس ساكنيه… خمسة وسبعون ثانية مدة اتصال نهشت داخلي نهشاً، هي مدة نبأ الفاجعة، سمعتها آذاننا ذاك الصباح، وأنا لم أصدق.
قصدت مكان الحادثة، أو مكان انهيار المبنى، كنت أمشي إليه بتلك السرعة، وقلبي يدق دقاته العالية، أسمع فيه أصوات الآليات وعربات الإسعاف، والرجال يصرخون لإنقاذ من هم تحت الأنقاض، والركام، كنتُ كمن لم يقتنع أنّ ما أراه أمامي حقيقي، كنت أردد بداخلي هذه ليست صورة، هذا ليس فيديو نشاهده إنها حقيقة، ربما لأني لم أستوعب أنّ الكارثة كانت قريبة منّي إلى هذا الحد، كما حصل عام 2016 وما قبله إبان هجمات المرتزقة على حيّنا.
هذه ليست المصيبة، ولا المجزرة الأولى في حيّنا، لكنّي حزينة على حالنا؛ أينما نذهب يحل الألم… حتى خيل إلي أن الجدران لم تعد تتقبلنا.
حي الشيخ مقصود، وكذلك حي الأشرفية بمدينة حلب، معروف بغالبية سكانية كردية، وغالبية السكان عفرينيون، حي مقاوم ومناضل بأحجاره، معروف عنه البطولة بجميع مكوناته، كرده، عربه، وسريانه، وتكاتفهم بروح واحدة ضد هجمات مرتزقة الاحتلال في عامه ٢٠١٦ وما قبله من الأعوام، التي تصاعدت فيها الهجمات على الحيين وتصاعدت المقاومة أيضا، وانتصرت المقاومة الثورية، التي تجلت بصورة واضحة، ترويها اليوم كل زاوية، وتشهد على ما قدمه هذا الحي.
احتضن هذا الحي عائلات من عموم المدن السورية؛ لأنه ورغم الحرب فيه كان الملجأ الآمن للجميع بهذا التكاتف وحماية أهله، وخوفهم على بعضهم، وتنظيم أنفسهم، لذا لجأت إليها مئات الأسر كما يلجأ الطفل إلى أمه حين يخاف، وهكذا كنا نحن والحي الأم، التي تخاف على أولادها، ولم تبخل بحنانها عليهم.
بعد احتلال تركيا ومرتزقتها في الثامن عشر آذار ٢٠١٨  لعفرين، نزح غالبيه أهلها من المدينة، والأكثرية جاؤوا إلى حلب، وسكنوا فيها على أمل العودة إلى عفرين… وسكان هذا المبنى أغلبهم كانوا من مدينة عفرين، سكنوا فيه لعلهم يوماً يعودون إلى مدينتهم، كما الكل اليوم في الحي، وفي مخيمات الشهباء، وكلهم أمل بذلك، لكن أحلامهم تلاشت بين أنقاض وأحجار هذا الحي، فيما يبدو أنهم سيعودون يوماً إلى مدينتهم عفرين، وهم أموات على أكتاف أهلهم، سيعودون إليها ليناموا هناك في حضن أرضها فتتساقط عليهم حبّات الزيتون الناعم، لا أن تنهار عليهم الأحجار ويتألمون.
وائل ريحاني وزوجته دعاء، كانوا ضمن ضحايا المبنى كغيرهم من الأسر، أملوا أن يؤسسوا عائلة بمجيء صغيرتهم إلى الحياة، التي كانا يتناقشان في كثير من الليالي ماذا سيسمونها، يقررون كيف سيمضون وقتهم مع صغيرتهم، يؤمنون حاجياتهم، يتأملون انتظار ابنتهم “صغيرتهم” وهي تقول لهما ماما، وبابا.
اجتمعنا بعد طول انتظار وافترقنا في ثوان
أخيراً أتت صغيرتهم، من رحهم أمها إلى رحم هذه الحياة، أتت ونشرت أجواء الحب والحنان في منزلهم بين أمها وأبيها… ولسان حالها يقول: “أتيت أنا إيفانا، ريحانة رضيعة، كان أمي وأبي ينتظراني بلهفة كبيرة، فكلما كان موعد يقترب، كان قلباهما يخفقان معاً، أملا أن يدق قلبي بين أحضانهما، ولدت… وأنا في غضون العشرين يوماً من عمري بين أحضان أمي وأنفاسها، بين يدي أبي وحنانه علي، عشرون يوماً، وأنا لم أعرف من الحياة سوى أمي وأبي، في هذه الأرض، التي جعلتني أشلاء بين أحجارها، لم أكبر فيها سوى عشرين يوماً… لكني حتماً سأكبر في الجنة مع أمي وأبي”.
جميعناً نحتمي بمنازلنا، لا نرتاح إلا بمنزلنا بين غرفه وجدرانه التي تحتوينا، بين جدرانه، التي تؤنسنا وتخبئ الذكريات، منازلنا هي احتواؤنا الحياة، نرتاح قليلاً بداخلها، لكن ماذا لو لم تعد هذه الجدران تتقبلنا، ماذا؟، أين نذهب؟
خمس أسر، خمس باقات ورود، ثماني عشرة نرجسة من هذه الباقة، كانت هناك، بمنزلهم، ثمانية عشر شخصا كانوا هاهنا، واليوم لا هم هنا، ولا منازلهم.
 أأتحدث عن مصطفى إيبو ابن الثمانية عشر عاماً، الذي طالته الفاجعة، ففقد أسرته “أمه وأخته وأخوه” تحت الأنقاض، أم عن العم جمال جعرور، الذي أصيب بكسور بكل جسمه، العم الذي فقد ابنه وزوجة ابنه مع ثلاثة من أحفاده وشقيقته، أم عن الشاعر، والمثقف الكردي رضوان آكري وزوجته، التي كانت تنتظر العلاج من مرض السرطان، عمن أتكلم…؟
هذا الألم، أو هذه الفاجعة، التي أصابت عوائل الضحايا وأقرباءهم أصابتنا جميعنا، جميع سكان حيي الشيخ مقصود والأشرفية، الحزن في هذا اليوم توحد، وجميعنا كنا جزءًا من هذه الفاجعة، الكل مفجوع، وفي الصميم موجوع.
بمراسم مهيبة حضرت عشرات الآلاف من أهالي حيي الشيخ مقصود، والأشرفية، والمحبين، والمواسين من حلب عموماً، حضروا تشييع جثمان ستة عشر قربانا، زفوهم بتلويح أغصان الزيتون في رمزية، وانتماء لمدينة عفرين المحتلة، عشرات الآلاف من أبناء هذين الحيين، أبوا أن يتركوا أسر الضحايا وحدهم، جميعهم شيعوا، وساروا مع الجثامين، وأعينهم تفيض ألماً، يقولون في سرهم “يا رب، ألهمنا الصبر، وفرجها علينا”.
توقفت عقارب الزمن لعشرات الآلاف من أبناء الشيخ مقصود، والأشرفية في الثالث والعشرين من كانون الثاني عند الثانية، وستة عشر شهيدا، بتوقيت الوجع.

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية