د. محمود عباس
أولوية الحوار بين الهيئة الكوردية والحكومة السورية الانتقالية، نحو مسار وطني عقلاني.
من أكبر أخطائنا كحراكٍ كوردي، ومعنا قيادة قوات قسد في هذه المرحلة الحساسة، أننا لم نُحسن قراءة جدلية الحوارات السياسية، ولم نُحدّد بدقة الأطراف التي ينبغي أن يبدأ معها الحوار أولًا.
سمحنا، أو تساهلت قيادة قسد والإدارة الذاتية، بأن تترك للحكومة السورية الانتقالية حرية اختيار الطرف الذي تتحاور معه، فكانت النتيجة أن رجّحت الحكومة الحوار مع قسد لا انطلاقًا من رؤية وطنية، بل لغايات ذاتية تخدم مصالح قوى إقليمية.
وبذلك اختلط علينا مبدأ الأسبقية السياسية والوطنية بعامل القوة العسكرية، فغلب منطق السلاح على منطق الدولة والمصلحة العامة، وضاعت بينهما البوصلة الوطنية التي كان يجب أن تقود المشهد.
لقد تأثّرنا، دون وعي، بإغراء القوة أكثر مما تأثّرنا بضرورات السياسة ومسؤولية التمثيل الوطني، فكانت النتيجة أن اللقاءات الجارية بين قوات قسد والحكومة السورية الانتقالية جرت دون دراسة استراتيجية متكاملة، ودون إدراكٍ كافٍ لموقع سوريا الجديدة كدولةٍ متعددة القوميات والأديان والمذاهب، الأمر الذي جعل مسار الحوار متعثرًا ومرتبك الاتجاه.
كان من الأجدر أن تُقدَّم الهيئة المنبثقة عن مؤتمر قامشلو المنعقد في 26 نيسان 2025 باعتبارها الطرف الأنسب لبدء الحوار على أبعاد مختلفة عن حوارات قسد والحكومة، لأنها تمثّل أوسع طيف من القوى الكوردية، وفي الوقت ذاته تحمل رؤية وطنية جامعة تُخاطب جميع مكوّنات سوريا، وتظل قسد القوة الضامنة للحوارات.
فحوار هذه الهيئة مع الحكومة السورية الانتقالية ليس معنيًا بالقضية الكوردية وحدها، بل هو في جوهره مشروع وطني لإنقاذ سوريا وبناء دولتها الجديدة على أسس العدالة السياسية والاجتماعية.
لذلك، من الضروري أن تُوقف قوات قسد حواراتها المباشرة مع الحكومة مؤقتًا، عند النقطة التي بلغتها بعد اتفاقية 10 آذار، أو ما بلغتها اليوم، وتعويم الهيئة الكوردية لمسار التفاوض الوطني، حتى لا تتشتت الجهود أو تتعدد المرجعيات السياسية.
فـالحوار الوطني لا يدار بالعجلة أو بالمنطق العسكري، بل بتسلسلٍ مدروس يضمن حضور ممثل شرعي وموحّد باسم الشعب الكوردي، بل وجميع مكونات سوريا كوطن، يُفاوض الحكومة الانتقالية من موقع المبدأ لا من موقع الضرورة.
بعد مؤتمر قامشلو وتشكيل الهيئة الكوردية العليا، كان يجب على قيادة قسد أن ترتكز إلى اتفاقية 10 آذار، وأن تعلن هي والإدارة الذاتية، دعمها الكامل للهيئة، لأنها تمثّل الإطار السياسي الأوسع والأكثر شرعية للحوار مع الحكومة.
فالقضية هنا ليست عسكرية فحسب، بل قضية وجود قومي ووطني، تتعلق بتحديد موقع الكورد وسائر المكونات ضمن خريطة سوريا الجديدة.
إنّ معالجة الجانب السياسي أولًا تمنح الشرعية لأيّ اتفاقٍ لاحقٍ عسكري أو إداري، وتضمن أن يكون الاعتراف متبادلًا، لا تنازليًا.
حاولت الحكومة السورية الانتقالية وربما بإملاءات إقليمية، تجاوز الهيئة أو إضعافها، كمخطط لتهميش الحراك الكوردي سياسيًا وإعادة قضيته إلى الهامش التاريخي، كما جرى طوال القرن الماضي.
في المقابل، فإنّ منح الهيئة الكوردية الأولوية، من قبل قوات قسد والإدارة الذاتية، في الحوار مع الحكومة السورية الانتقالية سيحوّل هذا الحوار إلى منصة وطنية جامعة، تُبنى عليها الركائز الدستورية لسوريا المستقبل، ويُترجم ذلك في عقد اجتماعي جديد يعترف بحقوق جميع مكونات البلاد، ويُكرّس الفيدرالية اللامركزية كأساسٍ استراتيجيٍ لبناء دولةٍ متوازنةٍ حديثة.
على قوات قسد أن تُدرك أنّ مسار الاندماج أو الدمج العسكري الذي يجري الحديث عنه لا يزال غامض المعالم، وأنّ المضي فيه دون وضوحٍ سياسي سيترك المنظمات التكفيرية والإرهابية، التي ما تزال تحتل عفرين وكري سبي وسري كانيه، والتي أجرمت في الساحل والسويداء، بينهم مجموعات واسعة من فلول داعش، خارج سلطة الحكومة الانتقالية، تُدار من قوى خارجية لا تريد الخير لسوريا ولا لشعوبها.
وبذلك، فإنّ الاستعجال في الدمج دون حلٍّ سياسي شامل سيُفقد قسد دورها كقوة توازن وطني، ويمنح خصومها فرصة إعادة خلط الأوراق العسكرية.
إنّ قسد اليوم تمثل أحد أعمدة التوازن العسكري والسياسي في سوريا، فهي القوة التي تحدّ من الإرهاب، وتُسهم في حماية المصالح الدولية والإقليمية ضمن سوريا، كما تمسك بميزان القوى داخل الجغرافيا السورية المتشابكة، وإلى حد ما خارجها.
ولذلك فإنّ دورها يجب أن يُدار ضمن رؤية وطنية جامعة، لا كقوة منفصلة ولا كملحق عسكري لأي طرف.
لقد أصبحت غربي كوردستان، بحكم الواقع، من أهمّ المكونات الجيوسياسية في سوريا والمنطقة.
فما كان يُمارس من تعتيمٍ مقصودٍ ضد الشعب الكوردي لعقودٍ طويلة، استنزف طاقة الدولة السورية وأفقدها القدرة على النمو، مثلما فعلت الأنظمة الإقليمية المحتلة لأجزاء كوردستان، لذلك نأمل من الحكومة السورية الانتقالية ألا تعيد تجارب الماضي المؤلم مع الشعب الكوردي وقضيته.
ولولا تلك الذهنية العنصرية التي غيّبت المساواة، لكانت سوريا، ومعها دول الشرق الأوسط الأخرى، في حالٍ أفضل سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، وثقافيًا.
فربما لو اعترفت تلك الأنظمة منذ البداية بحقوق المكونات الوطنية الأخرى، لما انفجرت الثورات، ولما اندلعت موجات الدمار التي سُمّيت “الربيع العربي”.
إنّ التجربة السورية اليوم أمام فرصة تاريخية نادرة، فإما أن تُبنى على الاعتراف المتبادل والحوار الحقيقي بين جميع القوى الوطنية، وفي مقدمتها الهيئة الكوردية المنبثقة من مؤتمر قامشلو، وإما أن تسقط مجددًا في فخ الإقصاء والتهميش، لتتحول القضية السورية برمّتها إلى مأساةٍ جديدة تُضاف إلى سجل التاريخ المأزوم في الشرق الأوسط.
الولايات المتحدة الأمريكية
21/10/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=78390