قراءة تحليليّة لقصيدة الشّاعر القس جوزيف إيليا: أموتُ لأولدَ!

صبري يوسف (أديب وتشكيلي سوري)_
الشّاعر القس جوزيف إيليا: تتراقصُ رؤاهُ بانبعاثاتٍ سرياليَّةٍ مدهشةٍ في تجلِّياتِ البوحِ
قصيدةٌ مغايرةٌ لفضاءاتِ الشَّاعرِ القس جوزيف، قصيدةٌ معتّقةٌ بأصفى نبيذِ الرُّوحِ، تسمو نحوَ أشهى مرامي الحنينِ، تقطرُ شوقاً إلى أزهى ما في جمالياتِ الحياةِ، عبقة بأهازيجِ الطَّبيعةِ، وهي تستقبلُ تغاريدَ البلابلِ في ذروةِ انبلاجِ الرَّبيعِ مكتسياً أجملَ الألوانِ فوقَ خدودِ الأرضِ، يغوصُ عميقاً في فضاءاتٍ طافحةٍ بأصفى مروجِ الخيالِ، تتراقصُ رؤاهُ بانبعاثاتٍ سرياليةٍ مدهشةٍ في تجلِّياتِ البوحِ، خرجَ في فضاءِ هذا النَّصِّ عن مألوفيَّاتِهِ، وراحَ يسبحُ في فضاءِ الخيالِ الممراحِ، كأنَّهُ في رحلةٍ حلميَّةٍ متعانقةٍ معَ كينونةِ الكونِ، كأنَّهُ في حالةِ انصهارٍ معَ الطبيعةِ، معَ الوجودِ، معَ زقزقة العصافيرِ، معَ اخضرارِ المروجِ، معَ شهقاتِ الكرومِ، معَ تلألؤ النّجومِ، معَ اهتياجِ الأمواجِ، وهديرِ الرِّيحِ، معَ الماضي المتماهي معَ أشهى الأحلامِ.
يبحثُ الشَّاعرُ عبرَ هذا النصِّ عن ولادةٍ لإيقاعِ أعذبِ الألحانِ، عن ولادةٍ مضمّخةٍ بنكهةِ الزَّنبقِ البرِّي، عن ولادةٍ منبثقةٍ من تكويرةِ الغمامِ، من نضارةِ النّدى المتناثرِ فوقِ جفونِ الصَّباحِ، من خاصرةِ أشجارٍ شامخةٍ شموخَ الحرفِ، من خصوبةِ الحياةِ، من أجنحةِ الفرحِ المتراقصِ على دندنة الأغاني المهدهِدةِ لإغفاءةِ الأطفالِ. يحلَّقُ عالياً فوقَ غبارِ الغدرِ، فوقَ لهيبِ النِّيرانِ المتربّصةِ في أعناقِ كينونةِ الكونِ، يريدُ أن يصفِّي مياهَ الأنهارِ من شوائبِ هذا الزَّمنِ المكتنزِ بالرُّعونةِ، يريدُ أن يمحقَ الشُّرورَ المستولدةَ من ضراوةِ السُّمومِ ومن قيحِ القُبحِ، ومن تفشِّي شراهةِ البطونِ، واضعاً في الاعتبارِ بناءَ حرفٍ يتماهى معَ جمالِ الحياةِ، منساباً كأريجِ النَّرجسِ في صباحاتِ نيسانَ.
يقتنصُ الشَّاعرُ رؤىً شعريّة غير مطروقةٍ في محرابِ حرفِهِ، كأنَّهُ في حالةِ نشوةٍ غامرةٍ غير مسبوقةٍ في جموحِ الحرفِ، راغباً أن يولدَ من جديدٍ بطريقةٍ مماثلةٍ لولادةِ الأزاهيرِ على هدهدة هبوبِ نسيمِ الصَّباحِ، على إيقاعِ زخّاتِ المطرِ، على روعةِ انبلاجِ تناغم قوسِ قُزحٍ، وهو يرهفُ السَّمعَ إلى قهقهة الغزلانِ، وهي تركضُ بكلِّ مرحٍ في أعماقِ البراري. يبدو الشَّاعرُ وكأنّهُ في حالةِ انصهارٍ معَ شهيقِ الطَّبيعةِ، معَ رفرفة أسرابِ الطُّيورِ. هل كانَ يوماً طائراً يحلِّقُ في فضاءِ السَّماءِ ولا يدري، فحنَّ إلى صفاءِ زرقةِ السَّماءِ عبرَ انبعاثِ مهجةِ الحرفِ، أم كانَ غيمةَ عشقٍ تهاطلتْ حُبَّاً فوقَ خدودِ هذا الزّمانِ؟! يرفرفُ الشّاعرُ عالياً، وكأنَّهُ يريدُ أنْ يلامسَ ضياءَ السَّماءِ، ينثرُ حرفَهُ بكلٍّ ابتهالٍ معَ زخّاتِ المطرِ المتهاطلِ فوقَ دالياتِ الخيرِ، وأغصانِ التِّينِ، وقداسةِ الزَّيتونِ. ينسجُ حرفاً من شهوةِ الحلمِ، من رحيقِ الاقحوانِ، من شراهةِ الرّيحِ. لا يبالي بما كانَ ولا بما هو آتٍ، جُلُّ ما يرومُ إليهِ، هو هذا الانبعاثُ عالياً، والتَّحليقُ فوقَ شموخِ الجبالِ، جموحٌ نحوَ فضاءِ السُّموِّ، نحوَ صفاءِ الرُّوحِ في أوجِ انتعاشِها، لا يريدُ أن يولدَ ولادةً طبيعيةً، من بطنِ أمِّهِ، بل يريدُ أن يولدَ من أجنحةِ الأمواجِ، وبهاءِ الفراشاتِ، ومآقي الطَّبيعةِ، ومن نسيمِ اللَّيلِ الحنونِ، ينسجُ حرفاً من وميضِ إشراقةِ الشَّمسِ، متدفِّقاً من شهوةِ المطرِ، ومنبلجاً من مرامي السّماءِ، حرفاً نقيَّاً نقاءَ موجِ البحرِ، يشتاقُ إلى إشراقةِ صباحٍ مندّى بأشهى أسرارِ العناقِ، إلى حلمٍ مسربلٍ بدفءِ الحرفِ، كي يمهرَ خيوطَ الحنينِ فوقَ سديمِ اللَّيلِ، لعلّهُ يستوحي من خدودِ الحياةِ أسرارَ التَّجلِّي.
يكتبُ قصيدةً عبقةً بوهجٍ سرياليٍّ موغلٍ في تساؤلاتٍ لا تخطرُ على بالٍ، هل هو في حالةِ حبورٍ وانتشاءٍ معَ جمالِ الحياةِ، معَ جمالِ الرُّوحِ، معَ أشهى ما في انبعاثِ الحرفِ؟ هل يترجمُ لنا آفاقَ الخيالِ عندما يكونُ في أوجِ الابتهالِ؟ الكتابةُ في مثلِ هذهِ الحالاتِ تغدو رسالةَ عِشقٍ مضرّجةً بلونِ الفجرِ الوليدِ، بلونِ البحرِ المصفَّى من وباء هذا الزَّمانِ، يحلِّقُ الشَّاعرُ عالياً، بحثَاً عن أصفى ما في كينونةِ الكونِ، ملَّ من لغةِ الافتراسِ، من لغةِ الدمِ، من لغةِ الحروبِ الجوفاءِ، يريدُ أنْ ينقشَ حرفَهُ فوقَ وجنةِ غيمةٍ، فوق ضفيرةِ الطَّبيعةِ المنسابةِ على أبهى مساحاتِ المدى.   يخاطبُ المرأةَ كأنّها بلسمُ الوجودِ، مركّزاً على نقاوةِ المحبّةِ والعطاءِ ومذاقِ العيشِ الكريمِ، بعيداً عن أنيابِ الثَّعابينِ، ودهاليزِ الظَّلامِ، منطلقاً من أنغامِ بهجةِ الرُّوحِ في ذروةِ ابتهالِها، واقفاً بكلّ بسالةٍ في وجهِ غطرسة التَّسلُّطِ، مبدِّداً خيوطَ المللِ فوقَ دنيانا، غير مكترثٍ إلَّا بأجنحةِ الحبِّ، والجمالِ والخيرِ، مرفرفاً بأجنحةِ الوئامِ والسَّلامِ، مبشِّراً بميلادِ القصيدةِ على إيقاعِ صفاءِ السّماءِ.
يجنحُ الشّاعرُ نحوَ فضاءِ الحرّيَّةِ، نحوَ حرفٍ يحمي أجنحةَ الخيرِ، مركّزاً على إنسانيّةِ الإنسانِ، ونشرِ رفرفة أجنحةِ اليمامِ، ويصدُّ صولجانَ الغدرِ بكلِّ ما لديهِ من عنفوانٍ، رافعاً لواءَ الطّهارةِ، وضياءَ الشُّموعِ. يلوي ببراعةٍ شراهةَ السّيوفِ عبرَ حرفٍ مسكوبٍ بمذاقِ خيراتِ السّماءِ، غيرَ عابئٍ إلَّا بمزاميرِ سموِّ الرّوحِ، ناسجاً أحلامَهُ المرفرِفةَ فوقَ جنائنِ العمرِ، وهو في أوجِ شوقِهِ إلى عناقِ لغةِ الجمالِ، وترانيمِ الفرحِ في صباحِ الأعيادِ، وصباحِ الشِّعرِ السَّاطعِ فوقَ خميلةِ الحياةِ. وفي أوج تجلِّياتِهِ لا يرى أجدى من الكلمةِ الخيّرةِ، من ندى الشِّعرِ، من صفاءِ الرّوحِ، ومن جموحِ الشِّعرِ يوشّحُ بها وجهَ الدُّنيا، فهي أي الكلمةُ: هي الأبقى والأكثرُ سطُوعاً وشموخاً على مدى إشراقةِ الشَّمسِ!
الشّاعرُ القس جوزيف إيليّا، في حالةٍ تجدُّدٍ دائمٍ، لا يطيقُ لغةَ الصَّمتِ، يطلقُ العنانَ لإشراقةِ الشِّعرِ بأبهى انبعاثاتهِ، ردَّاً على مَنْ لوّثوا صفاءَ الماءِ، كابحاً الشُّرورَ، هجرَ الأغاني المغلّفةَ بالضَّجرِ، رامياً خلفَ ظهرِهِ كلَّ ما يصادفهُ من يباسٍ، مجنّحاً نحوَ عذوبةِ الرّوضِ، ومتشرّباً من خصوبةِ الأرضِ جمالَ العطاءِ، محلِّقاً في آفاقِ السَّماءِ، فارشاً جناحيه مثلَ نسرٍ، كابحاً تربُّصاتِ الغولِ، وموغلاً في لجينِ حرفٍ يزدادُ سطوعاً وشموخاً فوقَ رحابِ الحياةِ، بحثاً عن لغةٍ مضمَّخةٍ بأشهى رحيقِ الاخضرارِ، غيرَ مكترثٍ بغطرسة آخرِ زمانٍ، فكلُّ ما يُبنى على باطلٍ نهايتُهُ إلى زوالٍ، إلى ارتخاءٍ وضمورٍ أمامَ جموحِ الرُّؤى، وأمامَ شموخِ الفكرِ، وأمامَ شعرٍ يعانقُ زرقةَ السَّماءِ!
القصيدة:
أموت لأولد
أموتُ لأولدَ ثانيةً
ليس مِنْ بطنِ أمّي
ولكنْ من الموجِ
أو مِنْ جناحِ عصافيرَ
أو مِنْ ضفائرِ داليةٍ
لا تبعثرُها الرّيحُ
أو مِنْ جفونِ صباحٍ
يراقصُ عشبَ الحقولِ
ويشربُ شايًا لذيذًا مع النّهرِ
أو مِنْ نبيذِ حكاياتِ أنثى
تقومُ مع الفجرِ
تصنعُ خبزًا شهيًّا لجوعى العناقِ
ومِنْ بسمةِ الّلونِ
فوق تضاريسِ نجمٍ
يوزِّعُ حلوى على أممٍ
لا تخوضُ معاركَ خاسرةً
في الوجودِ
تسمِّرُهُ فوق عودِ صليبِ الغيابِ
ومِنْ شفةِ الشّعراءِ.
أموتُ لأولدَ ثانيةً
كي أصيرَ صديقَ وحوشِ البراري
أقولُ لها:
– لا تخافي
تعالي
وعيشي معي
نأكلِ النَّبْتَ
لا لحمَ مَنْ جاءَنا باسمًا ومحبًّا
يرشُّ علينا عطورَ الهوى والنّقاءِ.
وكي أنا أصبحَ نغمةَ عودٍ
تقولُ الّذي تشتهيهِ
مسامعُ دنيا تحبُّ النّشيدَ
وتسعى لقتلِ أفاعيْ الكهوفِ
وصدِّ جيوشِ الوباءِ.
وحتّى أرافقَ رقصةَ ظبيٍ
وخطوةَ بحرٍ
وأقطعَ رأسَ الفراغِ المخيفِ
وأشربَ في الّليلِ خمرَ انتصاري
وأصبحَ أغصانَ حُبٍّ
وضحكةَ رابيةٍ
بعدَ هدمِ جدارِ الشّتاءِ.
أموتُ لأولدَ ثانيةً
أُطلِقُ الصّوتَ حُرًّا
وأكتبُ حرفيْ متينًا
قويًّا يؤرِّقُ نومَ الجناةِ
وأرمي إلى البئرِ إخوةَ “يوسفَ”
مَنْ شوّهوا جبهةَ الطُّهْرِ
وامتعضَ الذّئبُ منهم
وما اعتذروا منهُ
إنّي أريدُ الصّراخَ
كرهتُ السّكوتَ
كرهتُ حطامَ المرايا
وتمزيقَ ثوبي
وتلويثَ كأسي
ولعنةَ تيني
وإطفاءَ ضوئي
ولَيَّ ذراعي
وكسْرَ إنائي.
كرهتُ مواويلَ
لا أتقنُ الّلحنَ فيها
وأجنحةً لا أطيرُ بها
ويدًا يبستْ
ورؤًى سقطتْ
وعناوينَ ضاعت
وأبغضتُ مِلحيْ يُداسُ ويُرمى
وظلّيْ يُلاشى ويُنسى
ونهريْ يجِفُّ ويُمشى عليهِ
وإنّي كرهتُ ارتيادَ مقاهيْ الغموضِ
وشُربَ سجائرِ وهمٍ وشكوًى
وسَيرًا على جمرِ ما ساءَني
وغدًا ظلَّ يرجعُني للوراءِ.
أموتُ لأولدَ ثانيةً
وأعيشَ بلا تعبٍ
وأنامَ على صدرِ قافيةٍ لا تئنُّ
رغيفيْ الكلامُ الجديدُ الجميلُ
وأجوبةٌ سهلةُ الفهمِ مائي.
أصلّي
أرنّمُ
أنسى تواريخَ تِيهي وذلّي وقهري
 وأوحالَ إثمي
ومِنْ غيرِ خوفٍ
ولا قلقٍ مِنْ زئيرِ فَنائي
أجدِّدُ ريشيْ
سعيدًا أطيرُ
أعانقُ خدَّ الأعالي
وأدخلُ هيكلَ ربّي بأحذية النّورِ وحدي
بلا أيِّ وعظٍ مِنَ الأنبياءِ.

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية