الثلاثاء 19 آب 2025

قراءة في التقييمات الأخيرة لـ”البنتاغون” حول سوريا

مصطفى مصطفى – باحث في مركز الفرات للدراسات

اتّسم الموقف الأمريكي تجاه الأحداث في سوريا عقب سقوط نظام الأسد نهاية عام 2024 بالغموض وعدم الوضوح. فقد وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التطورات التي تزامنت مع فرار رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد بأنها “ليست معركتنا”، مما يوحي بإنكار الولايات المتحدة لأي دور مباشر لها فيما آلت إليه الأوضاع. هذا الموقف المتردّد انعكس في تصريحات المسؤولين الأمريكيين، وخاصة مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص إلى سوريا، حيث تنوعت بين التحذير من نوايا وسلوكيات الحكومة المؤقتة الجديدة في دمشق والتعامل معها بشك وحذر، وبين دعمها أحياناً أخرى. لكنْ مع التقييمات الرسمية الأخيرة لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” حيال الوضع في سوريا، يبدو أنّ الموقف الأمريكي تجاه السلطات الجديدة في دمشق يخرج قليلاً من المربع الضبابي، ويتجه نحو مراجعة أكثر وضوحاً لا سيما من الجانبين الأمني والعسكري، إذ شرعت بالتقليل من الاندفاع المفرط في فتح قنوات التواصل مع الحكومة المؤقتة في دمشق، خاصة بعد الأحداث الدامية التي شهدتها محافظة السويداء السورية والتي صاحبتها انتهاكات جسيمة، وجرائم ارتكبتها مجموعات مسلحة باسم العشائر، بالإضافة إلى عناصر تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية السورية، مستهدفة الدروز من أبناء السويداء.

بحسب التقييمات والتقديرات الجديدة التي أعدتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) لصالح الكونغرس الأمريكي فإنّ الجيش السوري الجديد يبدو أبعد من أن يكون مؤسسة وطنية متماسكة وأكثر شبهاً بتحالف هشّ يضم خليطاً من الفصائل والميلشيات، بما في ذلك عناصر مرتبطة بفصائل متطرفة مثل “هيئة تحرير الشام” وبقايا تنظيم “حرّاس الدين” الذي أعلن حلّ نفسه إثر سقوط نظام الأسد، كاشفاّ للمرّة الأولى بشكل رسمي أنه كان فرعاً من تنظيم القاعدة في سوريا، كما ورد في التقرير الكامل.

هذه التقديرات ليست مجرد تقييم أمني فحسب، بل تحمل رسائل سياسية واستراتيجية، وفي مقدمتها انعدام الثقة الأمريكية بالسلطات الانتقالية في دمشق، بعد أن قُرئت بعض القرارات الأمريكية المتعلقة بالعقوبات المفروضة على سوريا بوصفها انفتاحاً على السلطات الجديدة في سوريا ومنحها الشرعية، فعندما يعتبر البنتاغون أنّ البنية العسكرية للسلطة الجديدة محفوفة بوجود عناصر متطرفة وفي مقدمتها “هيئة تحرير الشام”، التنظيم الذي من المفترض أنّه حل نفسه، وكان يقوده الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع باسم “أبو محمد الجولاني”، فإن ذلك يقلّل تلقائياً من فرص منح واشنطن شرعية سياسية أو دعم اقتصادي أو تقني لتلك السلطات، ويجعل أية خطوة نحو رفع العقوبات مرهونة بخطوات عملية من قطع العلاقات مع التنظيمات المصنفة إرهابية، وتحقيق عدالة انتقالية حقيقية، ومحاسبة من ارتكب جرائم ممنهجة والتي أكد عليها تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن “أحداث الساحل” مؤخراً.

إضافةً إلى ذلك، فإن الخطر لم يتلاشى بانهيار نظام الأسد؛ بل قد يكون تحول إلى شكل آخر من التطرف، حيث تتكيّف العناصر والجماعات الإرهابية والمتطرفة وتندمج في الهياكل الجديدة بدل ترك السلاح وحل نفسها، أي أنّ إدماج فصائل متطرفة –بل حتى تجنيس العناصر الأجنبية في سوريا- في جهاز الدولة قد يشرعن وجودها ويمنحها الموارد وسيطرة محلية، سيما في الدائرة المقربة من الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، ما يؤدي إلى إعادة إنتاج الإرهاب بصيغ أكثر انتظاماً ومشروعية محلية.

هذا الخطر الأمني مرتبط بشكل وثيق بواقعين آخرين هما إعادة أمريكا رسم خارطة نفوذها، وتشديد الرقابة على أي تغيير في تواجد قواتها في سوريا وعموم المنطقة. في هذا السياق يتضح أنّ السياسة الخارجية الأمريكية تتجه نحو إعادة صياغة استراتيجيتها تجاه سوريا، بحيث تبدو قوى مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مرشحة للحصول على هامش استقلالي أوسع، كبديل جزئي عن الثقة بالمؤسسة العسكرية المركزية في دمشق، سيما أنّ التقييم أشار إلى أن استمرار دعم قسد يتماشى مع مصالح الأمن القومي الأمريكي وأنّ هذا الموقف يمثّل تغييراً عن السياسات السابقة لكل من “وزارة الدفاع الأمريكية” و”الخارجية الأمريكية” و”مكتب الأمن القومي الأمريكي”، والتي كانت تدعم فكرة دمج قسد مع الحكومة في دمشق -حتى في ظل حكم الأسد- بهدف تقليل العبء الناتج عن حمايتها من التهديدات التركية.

هذا التوجه ليس عاطفياً، بل نابعاً من قناعة أمنية مفادها أنّ القوى المحلية القادرة على الاستمرار في قمع التنظيمات المتطرفة أو المحافظة على استقرار نسبي في مناطقها تستحق شكلاً من أشكال الحماية أو الدعم، ما لم تكن دمشق قادرة على ضمان ذلك عبر مؤسسات محكمة ومرتكزة على حكم القانون، وهذا التوجه ينطبق على المناطق الأخرى التي هي خارج سيطرة دمشق كالسويداء.

بالتزامن مع التقديرات والتقييمات الأمريكية نجد قرارات وتشريعات أمريكية داخلية تعكس هذا القلق أيضاً. ففي تقرير موقع المونيتور عن مشروع قانون الإنفاق الدفاعي لعام 2025 يكشف أنّ الكونغرس يسعى لتقييد انسحاب القوات الأميركية من سوريا عبر شروط صريحة على البنتاغون وهي: شهادة رسمية بعدم الإضرار بمهمة القضاء على داعش، وحظر خفض أو دمج القواعد العسكرية دون إخطار مسبق للكونغرس، وتقييم ثغرات الدعم أو التدريب المقدم للقوات المحلية الشريكة. هذا التشديد التشريعي، والذي حظي بتوافق نادر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، يعكس تخوّفاً من أنّ الانسحاب سيخلق فراغاً قد تستغله الجماعات المتطرفة أو إيران أو أطراف إقليمية أخرى لتوسيع نفوذها.

وبالتالي، فإن مسألة العقوبات المفروضة على سوريا وكذلك قابلية تجديدها وزيادتها تظل ورقة قوة اساسية في هذا المشهد. وطالما أنّ الربط بين السلطة الجديدة وجماعات مصنفة إرهابية قائماً، فإنّ الحديث عن رفع العقوبات أو تسهيل الوصول إلى النظام المالي الدولي يبقى بعيداً؛ لأنّ الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تريد مؤشرات ملموسة على فصل حقيقي بين السلطة والعناصر المتطرفة، وإجراءات قضائية واضحة ضد مرتكبي الانتهاكات.

تطرقت التقديرات الأمريكية، على المستوى الإقليمي، إلى أنه قد تصبح تبعات هذا الواقع والمشهد أكثر تعقيداً. فمحاولة إسرائيل توسيع “منطقة أمان” في الجنوب السوري أو تثبيت دور أمني أطول أمداً قرب حدودها ليست مسألة بعيدة عن السياسة الأميركية؛ فهي تتلاقى مع حسابات واشنطن حول استقرار حدود حلفائها ومنع تحول سوريا إلى منصة تهديد لإسرائيل أو لنفوذ إيراني متزايد.

إنّ سوريا ما بعد الأسد قد تستمر على الصعيد السياسي في حالة انقسام وعدم استقرار طويل الأمد، يصاحبه مزيج من صيغ الحكم المحلية والولاءات المتعدّدة، يندر أن ينتج عنه استعادة كاملة لوحدة الدولة وصيغ مؤسساتية قوية. وفي ظل هذا الواقع ثمة مخاطر حقيقية مثل عودة التعامل الأمني البحت مصاحباً بالعنف الذي يخلق تهديدا مستمراً، وتصعيدات محلية قد تتحول إلى احتكاكات إقليمية كما في السويداء، واستمرار حالة عدم الحل التي تمنح الجماعات المتطرفة مجالاً أوسع للتحرك والعودة من جديد.

بناء على ذلك فإنّ مقاربة إلغاء العقوبات أو الانفتاح السياسي الدولي على سوريا الجديدة لا تعني بالضرورة نهاية مرحلة الصراع بقدر ما قد تكون بداية مرحلة جديدة لصراع جديد بأداوت مختلفة. إنّ هشاشة الجيش السوري الجديد ووجود عناصر متطرفة داخل بنى الحكم، مع تشدد الموقف الأمريكي بالتزامن مع ضغوطات تشريعية لحماية الوجود العسكري والشركاء المحليين، كلها عوامل تجعل مشهد الاستقرار بعيد المنال إذا لم تُتّخذ خطوات متزامنة تعالج البعد الأمني والسياسي والاقتصادي.

ختاماً، هناك خيارات صعبة أمام الولايات المتحدة، إذ إنّ دعم الحكومة الجديدة في وضعها الراهن قد يؤدي إلى تضرر استراتيجيتها في محاربة الإرهاب ونسف نضالها في سبيل القضاء على الإرهاب في العالم، كما أن الاستمرار في الوجود العسكري المحدود وبشروط رقابية على الرغم من أنه يحدّ من الفراغ الأمني، ويمكّن الشركاء المحليين من مواجهة داعش المتجدد، لكنه يثير تكلفة سياسية داخلية وإقليمية؛ فالانسحاب الكامل قد يقلّص التكاليف المباشرة لكنه سيمنحها خصوماً إقليميين ومساحات للجماعات المتطرفة، وقد يعيد رسم خطوط النفوذ بطريقة تزيد الطين بلّة. لذلك فإن تشديد رقابة الكونغرس على أي انسحاب -كما يظهره مشروع قانون الإنفاق الدفاعي 2025- يُفسّر على أنه قرار احترازي لمواجهة تكاليف أسوأ السيناريوهات.

 

المصدر: مركز الفرات للدراسات