قسد ودمشق.. تفاوض على حافة الاحتمالات

نورالدين عمر
في خضم التطورات المتسارعة في المشهد السوري، تتصاعد الأصوات المطالبة لقوات سوريا الديمقراطية بالتريث وعدم التوجه إلى دمشق، انطلاقا من مخاوف متباينة بشأن مآلات أي اتفاق محتمل. غير أن هذه الدعوات، في جوهرها، تتجاهل طبيعة اللحظة السياسية الراهنة والفرص التاريخية المتاحة أمام الكرد ومكونات شمال وشرق سوريا لصياغة مستقبل مختلف.

السؤال المحوري هنا لا يتعلق بمجرد الذهاب إلى دمشق، بل بما يمكن أن تحققه هذه الخطوة من مكاسب سياسية ودستورية واستراتيجية. فالوقائع تشير إلى أن أي اتفاق محتمل سيحافظ على الدور الأمني والعسكري لقسد في حماية المنطقة، وإن كان ذلك ضمن أطر تنظيمية جديدة، مثل إعادة هيكلة القوات ودمجها في تشكيلات رسمية كالألوية أو الفرق العسكرية. في المقابل، من المتوقع أن تفتح العملية الباب أمام تعديلات دستورية تعترف صراحة بالحقوق القومية والسياسية والثقافية للكرد، وتضمن تمثيلهم الفعال في مؤسسات الدولة، من الحكومة ومجلس الشعب إلى الجيش وسائر المؤسسات الوطنية.

كما أن الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية في المناطق ذات الغالبية الكردية، واعتماد المدارس والجامعات والشهادات الصادرة عنها، سيشكلان ركيزة أساسية لتكريس مبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية. هذا التوجه سيمنح المنطقة مكانة شريكة في السلطة، ويهيئ الأرضية لعودة المهجرين وتعويض المتضررين من سنوات الصراع، ويؤسس لمرحلة جديدة من اللامركزية الفعلية التي لطالما كانت مطلبا رئيسيا لمكونات المنطقة كافة.

وفي مواجهة هذا المسار، برزت أصوات تشكك في وجود ضمانات حقيقية، وتخشى أن تقدم قسد تنازلات دون مقابل. لكن المعطيات الميدانية والسياسية تفند هذه المخاوف. فالمحادثات التي تجرى منذ البداية تتم برعاية مباشرة من المبعوثين الأمريكي والفرنسي، ما يمنحها ثقلاً سياسيا وضمانة دولية لا يمكن تجاهلها. إضافة إلى ذلك، تمتلك قسد قوة عسكرية كبيرة ومنظمة وخبرة ميدانية وسياسية تجعلها طرفا وازنًا في أي تفاوض. كما أن مسار الاندماج لا يقتصر على الجانب الأمني، بل يشمل تفاصيل سياسية وإدارية واقتصادية وأمنية دقيقة، بما يعزز قدرة المنطقة على التفاوض من موقع قوة.

الأهم من ذلك، أن المزاج العام في شمال وشرق سوريا يميل بوضوح نحو الحل السلمي، إذ يرى غالبية السكان أن التفاهم السياسي يفتح الباب أمام الاستقرار، فيما يقود أي خيار عسكري إلى مزيد من الفوضى والمعاناة. ومن هنا، فإن التوجه نحو اتفاق شامل وعادل لا يشكل مجرد خطوة تكتيكية، بل فرصة استراتيجية لإعادة رسم العلاقة بين المركز والأطراف على أسس جديدة تضمن الحقوق، وتعزز المشاركة، وتؤسس لمستقبل أكثر استقرارا وشراكة.

ورغم كل هذه المعطيات والفرص السياسية الواعدة، فإن احتمالات نجاح مسار الاندماج لا تزال دون مستوى التفاؤل الكامل. إذ تشير التقديرات الواقعية إلى أن فرص نجاح هذا المشروع لا تتجاوز 50 بالمئة، في حين تبقى احتمالات التصعيد العسكري قائمة في أي لحظة. الأخطر من ذلك هو احتمال دخول أطراف إقليمية على خط الصراع، بما قد يعقّد المشهد أكثر ويدفع الأمور نحو مسارات غير محسوبة.

كما أن احتمال اندلاع حرب أهلية مدمرة يظل قائمًا، وهي حرب قد تحرق الأخضر واليابس وتدفع البلاد إلى دوامة جديدة من الفوضى وعدم الاستقرار. ولهذا، فإن محاولات تحقيق الاندماج تبدو أقرب إلى معجزة سياسية تحتاج إلى إرادة حقيقية، وضمانات دولية صلبة، وإدارة دقيقة للتفاصيل. فالتجارب السابقة أثبتت أن الأزمات الكبرى لا تبدأ بالضرورة من القضايا الكبيرة، بل من التفاصيل الصغيرة التي يستهان بها.

Scroll to Top