د. محمود عباس
من الغرابة أن يتصور رئيس وزراء قطر أن بإمكانه إقناع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بمحاسبة إسرائيل، أو دفع بعض الإدارات الأمريكية إلى إدانة القصف الإسرائيلي الذي استهدف قادة حماس المقيمين في الدوحة، متناسياً أن الذين سيتحدث معهم هم أنفسهم الذين أعطوا الضوء الأخضر لتل أبيب لتنفيذ تلك الضربات، فالمعادلة واضحة، الأمر لا يقتصر على قطر وحدها، بل يشمل كل دولة تُؤوي قيادات حماس وتمنحهم الغطاء السياسي والإعلامي، هذه المرحلة انتهت، وأي نظام يغامر بالاستمرار فيها سيجد نفسه في مواجهة مباشرة مع واشنطن وتل أبيب معاً.
يتناسى رئيس الوزراء القطري أن دونالد ترامب كان قد أنذر قيادة حماس مرتين على الأقل، وطالبها بشكل واضح بالإفراج عن المحتجزين والخروج من قطاع غزة، وإلا فإن الحركة ومن يحميها سيكونون عرضة لضربات موجعة، كما يتجاهل حقيقة أن قطر تضم واحدة من أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة (قاعدة العديد الجوية)، إلى جانب قاعدة عسكرية تركية بموجب اتفاقية دفاع مشترك بين الدوحة وأنقرة، ومع ذلك لم يتحرك أي منهما لوقف أو حتى للاعتراض على الضربات الإسرائيلية، كلا الطرفين، واشنطن وأنقرة، التقط مسيّرات إسرائيل منذ لحظة إقلاعها، لكنهما تركا المشهد يمرّ وكأن شيئاً لم يكن. وللمفارقة، فإن الطائرتين الرئاسيتين اللتين أهداها الأمير لأردوغان وترامب لم تشفعا لقطر ولم تحمياها من هذا الإحراج الدولي، فذهبتا هباءً سياسياً.
إن على قطر أن تعيد النظر في سياستها واستراتيجيتها؛ فهي في العقد الأخير لعبت دوراً بالغ السوء عبر دعمها المباشر أو غير المباشر للمنظمات التكفيرية المتطرفة في أكثر من دولة إقليمية، لم تكن أدوارها أقل خطورة من أدوار تركيا التي دعمت جماعات متشددة، وساهمت في تغلغل داعش، وسهّلت عمليات احتلال عفرين وكري سبي وسري كانيه، بكل ما رافق ذلك من جرائم ودمار وتهجير، وهكذا تشكّلت بين قطر وتركيا واحدة من أهم نقاط التقاطع، دعم الإسلام السياسي والجماعات الراديكالية كسلاح جيوسياسي لتوسيع النفوذ.
لكن التجربة أثبتت أن هذا النهج ينتهي دوماً إلى ارتداد عكسي. فكما انتهى نفوذ داعش عسكرياً في 2019 تحت ضربات التحالف الدولي بقيادة أمريكا، وكما تآكلت أوراق إيران عبر ميليشياتها في المنطقة، فإن قطر وتركيا ستجدان نفسيهما في الدائرة ذاتها، حين تتحول أدواتهما من أوراق ضغط إلى عبء يهدد استقرارهما ويكشف هشاشة سياساتهما أمام القوى الكبرى.
المعادلة باتت أوضح من أي وقت مضى، مشروع حماس انتهى، وحزب الله يترنح في نهاياته، وأدوات إيران في المنطقة استُنزفت بعد أن أدت دورها التاريخي الذي بُني منذ ثمانينيات الثورة الخمينية، هيمنة طهران عبر أذرعها الميليشياوية في غزة ولبنان والعراق واليمن وصلت إلى مرحلة الانكسار، بعد أن تحولت تلك الأذرع من أدوات ضغط إقليمية إلى عبء استراتيجي يُستنزف في صراعات جانبية.
في المقابل، أخذ الدور التركي بالبروز على الساحة، مستخدمًا أدوات الإخوان المسلمين والفصائل المتطرفة التي رعتها أنقرة خلال العقد الأخير، كما فعلت في سوريا وليبيا، ومن المرجح أن يتم التعامل مع هذه الأدوات بالأسلوب ذاته الذي جُرّب مع أدوات إيران: السماح لها بالتمدد ضمن حدود محسوبة، ثم إعادة ضبطها وتشذيبها والحد من تجاوزاتها قبل أن تتحول إلى تهديد استراتيجي موازٍ. لقد باتت لدى واشنطن وتل أبيب خبرة تراكمية في إدارة هذا النوع من القوى التكفيرية المتطرفة: يتم جمعها أو تركها تتجمع في مناطق محددة برعاية قوى إقليمية، ثم تُستنزف وتُصفى لاحقًا بالتعاون مع تلك القوى ذاتها، بمجرد أن تتجاوز الخطوط الحمراء للأمن الأمريكي والإسرائيلي.
أما قمة الدول العربية في قطر، التي يُروّج لها كحدث تضامني كبير، فلن تتجاوز حقيقتها كونها مناسبة بروتوكولية لأداء واجب التعزية وإظهار الحد الأدنى من التضامن العربي. غير أن ما سيجري في الأروقة المغلقة خلف القاعات الرسمية سيكون أكثر جدية وحسمًا: ستُبلَّغ قيادة حماس المتبقية بضرورة القبول بشروط واشنطن، إطلاق سراح الرهائن، الخروج من قطاع غزة، وربما حتى وضع السلاح تحت إشراف السلطة الفلسطينية، شرط أن توافق إسرائيل على هذه الصيغة.
البيت الأبيض، من جانبه، لن يغيّر قواعد اللعبة، بل سيكرر أوامره عبر القناة القطرية، على الدوحة أن تقوم بدور الوسيط التنفيذي الأقرب لحماس، دون أن تملك سلطة القرار، فالقرار يبقى في واشنطن وتل أبيب، أما قطر فستظل مجرد ناقل للتعليمات، رغم كل ما حاولت أن تبنيه من نفوذ عبر احتضانها للحركات الإسلامية المتطرفة.
وهكذا، فإن مصير حماس وغيرها من الحركات المؤدلجة، سواء رفعت شعار التحرر أو غلّفته بعباءة الدين، لا يختلف في جوهره عن مصائر سابقيها. فالكثير من هذه التنظيمات تدخل في غيبوبة سياسية وفكرية، أسيرة الغرور والتباهي بالذات، فتتوهم أنها قادرة على مواجهة قوى لا تقاس بها، وتغرق في جغرافية ضيقة تحصر نفسها فيها. وغالبًا ما يكون الانتحار إمّا بالسقوط في مستنقع الضياع، أو بالتدحرج من القمة التي صنعتها لنفسها إلى حضيض لم تكن تتخيله.
المأساة ليست في سقوطها وحدها، بل فيما تجرفه معها من دمار داخلي لشعوبها التي تزعم الدفاع عنها. فهي في الواقع تحارب من أجل أنانية عمياء، غارقة في ظلمات التيه، غير مدركة لقدراتها الفكرية، أو العسكرية، أو الثقافية، أو السياسية، وهكذا تتحول معاركها إلى صراعات عبثية، وتتحول شعاراتها إلى جسر نحو نهايتها المحتومة.
الولايات المتحدة الأمريكية
12/9/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75812