الإثنين 14 تموز 2025

كارثة طبيعية وإنسانية.. حرائق الغابات في الساحل السوري وجرح السوريين النازف

“لم يبقَ شيء في غابات الساحل السوري. حتى ذكرياتنا احترقت كما الزيتون والليمون وأشجار الصفصاف… كل شيء أصبح رمادًا”.

قد تبدو هذه الكلمات مستهلًا لحالة شاعرية غارقة في الحزن، لكنها خرجت بحرقة من قلب مصطفى علوش، الناشط البيئي وعضو جمعية الزيتون السوري في اللاذقية. فحرائق الغابات التي اجتاحت الساحل السوري ليست مجرد حادثة عرضية، بل كارثة طبيعية وإنسانية، بل والأهم من ذلك، كارثة وطنية بامتياز. فالمسألة لا تتعلق فقط بمحميات طبيعية وبيئية، بل بغطاء نباتي يلعب دوراً حيوياً في جذب الأمطار وحماية التربة الساحلية، التي تُعد من أكثر الأراضي السورية خصوبة، ما يجعلها أساساً للزراعة في المنطقة.

الكارثة الزراعية التي نعيشها اليوم لا تقل خطورة عن التدمير البيئي. فالمساحات المحروقة بحسب الخبراء ستحتاج إلى نحو 17 عاماً لتعود إلى ما يقارب 40% فقط من حالتها السابقة، وهو ما يعني أننا أمام كارثة ممتدة في الزمن تستدعي جهودًا ضخمة ومركّزة لاحتواء آثارها.

الحرائق التي لا تزال مشتعلة التهمت حتى الآن أكثر من 15 ألف هكتار من المحميات الطبيعية والغابات، لتعيد إلى أذهان السوريين، وبخاصة سكان الساحل، مشاهد الألم والعجز المتكررة كل صيف. تتكرر الأزمة، لا فقط على مستوى الغطاء النباتي، بل في حياة السكان أيضاً، إذ يعتمد العديد من أبناء القرى على هذه الغابات كمصدر رزق، لما تحويه من زيتون وليمون ونباتات طبية وعطرية نادرة. لذلك فإن تداعيات هذه الحرائق لن تكون آنية، بل ستطول آثارها حياة الناس لعقود قادمة، رغم محاولات السلطات والمجتمعات المحلية لاحتوائها.

هذه المأساة لا تحتاج فقط إلى إطفاء النيران، بل إلى رؤية وطنية شاملة لاستعادة الغابات، وتعاون دولي عاجل، قبل كل شيء، إلى وقفة إنسانية أمام وجعٍ أصبح جزءاً من هواء الساحل.

هشاشة النظام البيئي وتداعيات كارثية

المهندس الزراعي سمير حيدر من طرطوس، الذي زار مناطق متضررة في اللاذقية، وصف الوضع بالكارثي على كل المستويات. وشدد على أن الأمر يتطلب تعاوناً إقليمياً ودولياً، إلى جانب جهود السلطات السورية، لوضع خطط سريعة تُعيد التوازن إلى النظام البيئي المتضرر. واقترح العمل على زراعة أشجار السرو والصنوبر في المناطق المحروقة، مع استجلاب أصناف زيتون سريعة النمو، مشيراً إلى أن استعادة التوازن البيئي قد تستغرق نحو خمس سنوات، مع ضرورة اعتماد خطط تنموية خاصة بالغابات، ووضع تدابير وقائية لتفادي تكرار هذه الكوارث.

يضيف حيدر أن ما دمرته الحرائق ليس مجرد غطاء نباتي، بل إرث طبيعي وبيئي نادر. بعض غابات الساحل تُعد من الأجمل في المنطقة والعالم، والمساحات المحروقة قد تتجاوز فعلياً 20 ألف هكتار. هذا الدمار ألحق ضرراً بالغاً بالتنوع البيولوجي، وهدد الأمن الغذائي، خصوصاً مع تدمير الحقول والمحاصيل، في وقت تواجه فيه سوريا موجة جفاف غير مسبوقة منذ ستين عاماً، مما يعرّض أكثر من 16 مليون سوري لخطر الجوع. ويضيف أن الكارثة ذات أبعاد إنسانية أيضاً، إذ تسببت الحرائق بنزوح عائلات كثيرة من قراها، هرباً من النيران والدخان، الذي امتد ليصل إلى ريفي حماة وإدلب، ما أعاد للأذهان مشاهد النزوح خلال سنوات الحرب.

تشكيك شعبي وتحديات واقعية

في ظل استمرار الحرائق، برزت شكوك وتكهنات في أوساط السوريين حول وجود أيادٍ خفية تقف وراء إشعالها بهدف تهجير السكان، إضافة إلى اتهامات بالتقصير من قبل السلطات المحلية. لكن الخبير الجيولوجي أصف حمودي من مدينة جبلة يرى أن هذه التحليلات، رغم شيوعها، لا تعكس حقيقة ما يجري، ويقول: “يكفي أن ننظر إلى طبيعة جبال الساحل لندرك صعوبة وصول آليات الإطفاء إلى المناطق الوعرة، وهو ما يعود في جزء منه إلى تقصير سابق في فتح طرق زراعية أو حفر خزانات مياه في أعالي الجبال”.

 

ويضيف: “الحرائق الحالية متوقعة ومنطقية بالنظر إلى المناخ الحار والجاف، كما أن فرق الإطفاء تواجه صعوبات جمّة، أبرزها التضاريس المعقدة، وغياب خطوط النار، ونقص مصادر المياه، وانتشار الألغام من مخلفات الحرب. كما ساهمت درجات الحرارة المرتفعة – التي تجاوزت 40 درجة – ونشاط الرياح في توسع رقعة النيران إلى قرى مأهولة مثل قسطل معاف. وفي مثل هذه الظروف، يتوجب على الحكومات المسارعة إلى طلب الدعم من الدول المجاورة، وتوحيد الجهود لمواجهة امتداد النيران”.

كما طالب حمودي الإدارة الجديدة بإصدار قانون خاص يجرّم التسبب المتعمد بالحرائق، معتبراً أن ذلك من شأنه أن يشكل رادعاً لأي جهة تفكر في الإضرار بالثروة الطبيعية، خاصة في ظل ما تحتويه غابات الساحل من تنوع بيئي وحيواني فريد.

غابات تحترق وذاكرة وطن تنزف

ليست حرائق الساحل مجرد كوارث طبيعية عابرة، بل هي جرح مفتوح في جسد وطن أنهكته الحروب والتغير المناخي. الغابات التي احترقت كانت جزءاً من جمال سوريا وتاريخها، وقد تحولت إلى أطلال.

المأساة لا تتعلق فقط بما احترق، بل بما سيترتب على ذلك من تراجع خطير في الأمن الغذائي. ففي ظل تحذيرات أممية سابقة بأن أكثر من 16 مليون سوري مهددون بانعدام الأمن الغذائي، فإن أي ضرر إضافي في القطاع الزراعي سيكون كارثيًا إنسانيًا واقتصاديًا.

لهذا، فإن الكارثة تستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً لدعم جهود الإغاثة، وعلى الحكومة أن تعمل بكل إمكاناتها لإعادة تأهيل المناطق المنكوبة، وتوفير تمويل مباشر للمتضررين، إلى جانب دعم القطاعات الإنتاجية، ولا سيما الزراعية، لضمان إعادة دوران عجلة الاقتصاد، وتخصيص دعم استثنائي للفلاحين الذين فقدوا أرزاقهم وأراضيهم.

معن جبلاوي- اللاذقية

المصدر: مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”